البَابُ الرَّابِعُ
العَوَائِقُ والعَلائِقُ
- وفيهِ خَمْسُ عَوَائِقَ وعَلائِقَ.
***
العَوَائِقُ والعَلائِقُ
إنَّ العِلْمَ الشَّرْعِيَّ، لا يَكُوْنُ شَرْعِيًّا مَقْبُوْلاً إلاَّ إذا خَلُصَ مِنَ العَوَائِقِ والعَلائِقِ، وسَلِمَ مِنَ الدَّسَائِسِ والحَوَائِلِ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ؛ فلْيَعْلَمِ الجَمِيْعُ: بأنَّ العِلْمَ الشَّرْعِيَّ لَهُ عَوَائِقُ كَثِيْرَةٌ تَقْطَعُ السَّيْرَ عَلَى طَالِبِ العِلْمِ، وتُفْسِدُ عَلَيْه الطَّلَبَ والقَصْدَ، كَمَا أنَّها مُحْبِطَةٌ لصَالِحِ الأعْمَالِ، ومُجْلِبَةٌ للحِرْمَانِ والخُسْرَانِ؛ ومَنْ أحَاطَتْ بِهِ فَقَدْ أوْبَقَتْ دِيْنَهُ ودُنْيَاهُ؛ فَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، ومِنْ عَمَلٍ لا يُرْفَعُ.
* * *
- ومَهْمَا قِيْلَ؛ فإنَّ العَوَائِقَ كَثِيْرَةٌ لا تَنْتَهِي إلى حَدٍّ ولا عَدٍّ، فمِنْها:
الكِبْرُ، بَطَرُ الحَقِّ، غَمْطُ النَّاسِ، حَسَدُ الأقْرَانِ، الرِّياءُ، العُجْبُ، تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، سُوْءُ الخُلُقِ، العِلْمُ بِلا عَمَلٍ، التَّرَفُ، العَجْزُ والكَسَلُ، سُوْءُ الظَّنِّ، تَصْنِيْفُ النَّاسَ بالظَّنِّ والتَّشَهِّي، غَيْرَةُ الأقْرَانِ، تَلَقِّي العِلْمَ عَنِ المُبْتَدِعَةُ، أخْذُهِ عَنِ الأصَاغِرِ، تَتَبُّعُ الرُّخَصِ والشُّذُوْذَاتِ العِلْمِيَّةِ، نَشْرُ أُغْلُوْطَاتِ المَسَائِلِ، حُبُّ الشُّهْرَةِ، التَّعَالُمُ، التَّصَدُّرُ قَبْلَ التَّأهُّلِ، التَّنَمُّرُ بالعِلْمِ، تَعْظِيْمُ عُلُوْمِ الدُّنْيَا وألْقَابِها، التَّخَصُّصُ (الجَامِعِيُّ)، التَّقْلِيْدُ المَذْهَبِيُّ، التَّعَصُّبُ العِلْمِيُّ، التَّحَزُّبُ المقِيْتُ، الانْهِزَامُ العِلْمِيُّ (الدَّعَوِيُّ)، رِقُّ الوَظَائِفِ، كَثْرَةُ المِزَاحِ، فُضُوْلُ المُبَاحَاتِ، خَوَارِمُ المُرُوْءةِ، الإصْرَارُ عَلَى الصَّغَائِرِ، ارْتِكَابُ الكَبَائِرِ، المُجَاهَرَةُ بالمَعَاصِي، حُبُّ الدُّنْيَا، الدُّخُوْلُ عَلَى السَّلاطِيْنِ... إلخ.
* * *
فأمَّا إنْ سَألْتَ يَا طَالِبَ العِلْمِ عَنْ جَامِعِ الغَوَائِلِ وأصْلِها، فَهُمَا أمْرَانِ (مُرَّانِ)، مَا ابْتُلِي بِهِمَا أحَدٌ إلاَّ هُتِكَ سِتْرُه، وافْتُضِحَ أمْرُه، ورَقَّ دِيْنُه، وحُرِمَ خَيْرُه، (نُعُوْذُ باللهِ مِنْ كُلِّ سُوْءٍ)!
الأوَّلُ: حُبُّ الدُّنْيا.
والثَّانِي: الدُّخُوْلُ عَلَى السَّلاطِيْنِ، وهُمَا عَائِقَانِ مُهْلِكَانِ(1).
يَقُوْلُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا في غَنَمٍ بأَفْسَدَ لَهَا: مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ، والشَّرَفِ لدِيْنِهِ» أخْرَجَهُ أحمَدُ (3/ 456)، والتِّرمِذِيُّ (2376)، وهُوَ حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ.
فأصْلُ مَحَبَّةِ المَالِ والشَّرَفِ حُبُّ الدُّنْيا، وأصْلُ حُبِّ الدُّنْيا بَلاطُ السَّلاطِيْنِ، وفيها اسْتِحْكَامُ الهُلْكَةِ؛ فَنَعُوْذُ باللهِ مِنَ الهَوَى والدُّنْيَا!
يَقُوْلُ ابنُ وَهْبٍ رَحِمَهُ اللهُ: «إنَّ جَمْعَ المَالِ وغِشْيَانَ السُّلْطَانِ، لا يُبْقِيَانِ مِنْ حَسَنَاتِ المَرْءِ إلاَّ كَمَا يُبْقِي ذِئْبَانِ جَائِعَانِ سَقَطَا في حَظَارٍ فيه غَنَمٌ؛ فَبَاتا يَجُوْسَانِ حَتَّى أصْبَحَا»(2).
* * *
- فأمَّا العَائِقُ الأوَّلُ: فَهُوَ حُبُّ الدُّنْيا وزِيْنَتِها، فَهَذَا (واللهِ!) بَيْتُ الدَّاءِ، ونَامُوْسُ السِّفْلَةِ والرَّعَاعِ، ومَبْلَغُ رَأسِ عِلْمِ الخَالِفينَ، وسُوْقُ المُتَعَالِمِيْنَ، فَعَيَاذًا باللهِ مِنْها!
فيَا طَالِبَ العِلْمِ؛ الحَذَرَ الحَذَرَ مِنْ حُبِّ الدُّنْيا، «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أكْبَرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا» أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (3502)، وهُوَ صَحِيْحٌ.
فَقَدْ قَالَ تَعَالى: ﴿اعْلَمُوا أنَّما الحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِيْنَةٌ وتَفَاخُرٌ بَيْنَكم وتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ﴾[الحديد:20].
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الدُّنْيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُم فيها؛ فيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُوْنَ؟ فاتَّقُوا الدُّنْيا واتَّقُوا النِّسَاءَ، فإنَّ أوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إسْرَائِيْلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِه وَجْهَ اللهِ لا يَتَعَلَّمَهُ إلاَّ لِيُصِيْبَ بِه عَرَضًا مِنَ الدُّنْيا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ» أخْرَجَهُ أحْمَدُ (2/ 338)، وأبُو دَاوُدَ (3664)، وابنُ مَاجَه (252)، وهُوَ حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ أحمَدُ، يَعْنِي: رِيْحَهَا.
* * *
قِيْلَ للإمَامِ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ: إنَّ ابنَ المُبَارَكِ قِيْلَ لَهُ: كَيْفَ يُعْرَفُ العَالِمُ الصَّادِقُ؟ فَقَالَ: الَّذِي يَزْهَد في الدُّنْيا، ويُقْبِلُ عَلَى أمْرِ الآخِرَةِ، فَقَالَ أحْمَدُ: كَذَا يَنْبَغِي أنْ يَكُوْنَ، وكَانَ أحْمَدُ يُنْكِرُ عَلَى أهْلِ العِلْمِ حُبَّ الدُّنْيا، والحِرَصَ عَلَيْها!»(3).
قَالَ الإمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: «لا عَيْبَ في العُلَمَاءِ أقْبَحُ مِنْ رَغْبَتِهم فيمَا زَهَّدَهُم اللهُ فيه!»(4)، أيْ: حُبَّ الدُّنْيَا.
قَالَ الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ: «لَكَثِيْرٌ مِنْ عُلَمَائِكِم زِيُّهُ، أشْبَهُ بِزِيِّ كِسْرَى وقَيْصَرَ مِنْهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، ولا قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ، ولَكِنْ رُفِعَ لَه عِلْمٌ فَشَمَّرَ إلَيْه»(5).
وقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ «إذَا فَسَدَ العُلَمَاءُ؛ فَمَنْ يُصْلِحُهُم؟ وفَسَادُهُم مَيْلُهُم عَلَى الدُّنْيا، وإذَا جَرَّ الطَّبِيْبُ الدَّاءَ إلى نَفْسِه فَكَيْفَ يُدَاوِي غَيْرَه؟!»(6).
وقَالَ جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: «إذَا رَأيْتُم العَالِمَ مُحِبًا لدُنْيَاه؛ فاتَّهِمُوْهُ عَلَى دِيْنِكِم، فإنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لشَيْءٍ يَحُوْطُ ما أحَبَّ»(7).
أمَّا قَوْلُه: «فاتَّهِمُوْهُ عَلَى دِيْنِكِم»، أيْ: لا تَأخُذُوا مِنْه شَيْئًا مِنْ أمُوْرِ الدِّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فَتْوَى أو عِلمًا، لأنَّه مُتَّهَمٌ في دِيْنِه، وقَدْ قِيْلَ: العِلْمُ دِيْنٌ، فانْظُرُوا عَمَّنْ تَأخُذُوْنَ دِيْنَكُم، واللهُ أعْلَمُ.
وقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ المُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ «مِنْ شَرْطِ العَالِمِ أنْ لا تَخْطُرَ مَحَبَّةُ الدُّنْيا عَلَى بَالِه!، وقِيْلَ لَهُ: مَنْ سفْلَةُ النَّاسِ؟ قَالَ: الَّذِيْنَ يَتَعَيَّشُوْنَ بِدِيْنِهِم!»(8).
كَانَ يُقَالُ: «أشْرَفُ العُلَمَاءِ مَنْ هَرَبَ بدِيْنِهِ عَنِ الدُّنْيا، واسْتَصْعَبَ قِيَادُهُ عَلَى الهَوَى»(9).
نَعَمْ؛ فإنَّ طَلَبَ العِلْمِ يَدُلُّ عَلَى الهَرَبِ مِنَ الدُّنْيا، لا عَلَى حُبِّها، أمَّا أهْلُ زَمَانِنا فَشَيْءٌ آخَرُ، فإلى الله المُشْتَكَى، وعَلَيْهِ التُّكْلانُ!
وقَالَ حَسَنُ بنُ صَالِحٍ رَحِمَهُ اللهُ: «إنَّكَ لا تَفْقَهُ؛ حَتَّى لا تُبَالِي في يَدَيْ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيا»(10).
ومَا أبْلَغَ مَا هُنَا!؛ إذْ يَقُوْلُ الآجُرِّيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «أخْلاقِ العُلَمَاءِ» (89): «فإذَا كَانَ يُخَافُ عَلَى العُلَمَاءِ في ذَلِكَ الزَّمَانِ أنْ تَفْتِنَهُم الدُّنْيا!، فَمَا ظَنُّكَ بِه في زَمَانِنَا هَذَا؟ اللهُ المُسْتَعَانُ. مَا أعْظَمَ مَا قَدْ حَلَّ بالعُلَمَاءِ مِنَ الفِتَنِ وَهُم عَنْهُ في غَفْلَةِ!» انْتَهَى.
قُلْتُ: وَكَأنِّي بالآجُرِّيِّ رَحِمَهُ اللهُ يَصِفُ أكْثَرَ عُلَمَاءِ زَمَانِنا مِمَّنْ فَتَنَتهُمُ الدُّنْيَا بقُصُوْرِهَا ومَرَاكِبِهَا! وهُمْ حَتَّى سَاعَتِي هَذِه مَا بَيْنَ غَفْلَةٍ أو تَغَافُلٍ، وجَهْلٍ أو تَجَاهُلٍ بالفِتَنِ العَاصِفَةِ بالعِبَادِ والبِلادِ، فاللهُ المُسْتَعَانُ!
* * *
- وأمَّا العَائِقُ الثَّانِي: فَهُوَ الدُّخُوْلُ عَلَى السَّلاطِيْنِ، وأهْلِ الدُّنْيا، فَهَذَا (واللهِ!) المَوْتُ الأسْوَدُ، والحَوْرُ بَعْدَ الكَوْرِ، إلاَّ مَنْ سَلَّمَهُ اللهُ، وقَلِيْلٌ مَا هُم، فعِيَاذًا باللهِ مِنْه!
فيَا طَالِبَ العِلْمِ؛ الحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الدُّخُوْلِ عَلَى السَّلاطِيْنِ، وأهْلِ الدُّنْيا!
فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَا جَفَا، ومَنْ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، ومَنْ أتَى أبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتَتَنْ، ومَا زَادَ أحَدٌ مِنَ السُّلْطَانِ قُرْبًا إلاَّ ازْدَادَ مِنَ اللهِ بُعْدًا» أخْرَجَهُ أحمد، وهُوَ صَحِيْحٌ، انْظُرْ: «السِّلْسِلَةَ الصَّحِيْحَةَ» (1272).
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكُم وأبْوَابَ السُّلْطَانِ؛ فإنَّه قَدْ أصْبَحَ صَعْبًا هَبُوْطًا»، (هَبُوْطًا: ذُلاًّ)، أخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ (1/ 2/ 345)، وابنُ عساكر (13/ 232)، وقَد صَحَّحَ إسْنادَه الألْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيْحَةِ» (1253).
* * *
قَالَ أبُو حَازِمٍ رَحِمَهُ اللهُ «لَقَدْ أتَتْ عَلَيْنا بُرْهَةٌ مِنْ دَهْرِنا ومَا عَالِمٌ يَطْلُبُ أمَيْرًا، وكَانَ الرَّجُلُ إذا عَلِمَ اكْتَفَى بالعِلْمِ عَمَّا سِوَاه، فَكَانَ في ذَلِكَ صَلاحٌ للفَرِيْقَيْنِ (للوَالِي والمَوَلَّى عَلَيه)، فَلَمَّا رَأتِ الأمَرَاءُ أنَّ العُلَمَاءَ قَدْ غَشَوْهُم وجَالَسُوْهُم وسَألُوْهُم مَا في أيْدِيْهِم هَانُوا عَلَيْهم وتَرَكُوا الأخْذَ عَنَهُم والاقْتِبَاسَ مِنْهُم، فَكَانَ ذَلِكَ هَلاكٌ للفَرِيْقَيْنِ»(11) انْتَهَى.
واجْتَازَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ يَوْمًا ببَعْضِ القُرَّاءِ عَلَى أبْوَابِ السَّلاطِيْنِ، فَقَالَ: «أقْرَحْتُمْ جِبَاهَكُم، وفَرْطَحْتُمْ نِعَالَكَمُ، وجِئْتُمْ بالعِلْمِ تَحْمِلُوْنَه عَلَى رِقَابِكِم إلى أبْوَابِهِم؟ فَزَهِدُوا فيكُم، أمَا إنَّكُم لَوْ جَلَسْتُم في بِيُوْتِكِم حَتَّى يَكُوْنُوا هُمُ الَّذِيْنَ يُرْسِلُوْنَ إلَيْكُم؛ لَكَانَ أعْظَمَ لَكُمْ في أعْيُنِهِمْ، تَفَرَّقُوا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَ أضْلاعِكِمُ!»(12) انْتَهَى.
وقَالَ كَعْبُ الأحْبَارِ رَحِمَهُ اللهُ «يُوْشِكُ أنْ تَرَوْا جُهَّالَ النَّاسِ يَتَبَاهَوْنَ بالعِلْمِ، ويَتَغَايَرُوْنَ عَلَى التَّقَدُّمِ بِه عِنْدَ الأمَرَاءِ، كَمَا يَتَغَايَرُ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ، فَذَلِكَ حَظَّهُم مِنْ عِلْمِهِم»(13).
قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ «إذَا رَأيْتُم العَالِمَ (القارئ) يَلُوْذُ ببَابِ السَّلاطِيْنِ فاعْلَمُوا أنَّه لِصٌّ، وإذا رَأيْتُمُوْهُ يَلُوْذُ ببَابِ الأغْنِيَاءِ فاعْلَمُوا أنَّه مُرَاءٍ»(14)، وبِمِثْلِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ(15).
وقِيْلَ لسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: «ألاَ تَدْخُلُ عَلَى الأمَرَاءِ فَتَتَحَفَّظُ وتَعِظَهُم وتَنْهَاهُم؟ فَقَالَ: تَأمُرُوْنِي أنْ أسْبَحَ في البَحْرِ ولا تَبْتَلَّ قَدَمَاي؟ إنَّي أخَافُ أنْ يُرَحِّبُوا بِي فأمِيْلُ إليْهِم فَيَحْبَطَ عَمَلِي!»(16) انْتَهَى.
ومِنْ دَقِيْقِ الخَوْفِ؛ مَا ذَكَرَهُ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللهُ بقَوْلِهِ: «كُنْتُ قَدْ أُوْتِيْتُ فَهْمَ القَرْآنِ، فلَمَّا قَبِلْتُ الصُّرَّةَ مِنْ أبِي جَعْفَرٍ؛ سُلِبْتُه، فنَسْألُ اللهَ تَعَالَى المُسَامَحَةَ!»(17).
ومَا أجْمَلَ مَا هُنَا؛ وذَلِكَ عِنْدَمَا كَتَبَ إمَامُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ أحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ إلِى سِعِيْدِ بنِ يَعْقُوْبَ: «أمَّا بَعْدُ: فإنَّ الدُّنْيا دَاءٌ، والسُّلْطَانَ دَاءٌ، والعَالِمَ طَبِيْبٌ، فإذَا رَأيْتَ الطَّبِيْبَ يَجُرُّ الدَّاءَ إلى نَفْسِه فاحْذَرْهُ، والسَّلامُ عَلَيْكَ!»(18) انْتَهَى.
وقَدْ قِيْلَ: «إنَّ خَيْرَ الأمَرَاءِ مَنْ أحَبَّ العُلَمَاءَ، وإنَّ شَرَّ العُلَمَاءِ مَنْ أحَبَّ الأمَرَاءَ!»(19).
وحَسْبُكَ أنَّ هَذَا هُوَ القَانُوْنُ الَّذِي يُوْزَنُ بِه العُلَمَاءُ والأمَرَاءُ: خَيْرًا وشَرًّا!
- ورَحِمَ اللهُ أبَا الحَسَنِ عَلَيَّ بنَ عَبْدِ العَزِيْزِ الجُرْجَانِيَّ إذْ يَقُوْلُ(20):
ولَوْ أنَّ أهْلَ العِلْمِ صَانُوْهُ صَانَهُم ولَوْ عَظَّمُوْهُ في النُّفُوْسِ لَعُظِّمَا
ولَكِنْ أهَـانُوْهُ فَهَانُوا ودَنَّسُوْا مُحَيَّاهُ بـالأطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
* * *
ومَهْمَا يَكُنْ، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ يا طَالِبَ العِلْمِ عَلَيْهِم حَسَرَاتٍ؛ فإنَّه لَمَّا مَاتَ شَيْخُ الإسْلامِ وقُدْوَةُ العُلَمَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: «مَعْشَرَ أهْلِ الَهَوى كُلُوا الدُّنْيا بالدِّيْنِ، فَقَدْ مَاتَ سُفْيَانُ!»(21)، يَعْنِي: مَا بَقِي بَعْدَهُ أحَدٌ يُسْتَحْيَا مِنْه!، قُلْتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ سُفْيَانُ، فاللهُ أحقُّ أنْ يُسْتَحْيَ مِنْه!
ولا يَهُوْلنَّكَ يا طَالِبَ العِلْمِ مَا هُنَالِكَ مِنْ نَوَابِتَ نَكِدَةٍ لَمْ تَزَلْ تَسْعَى جَاهِدَةً في إحْيَاءِ مُخَالَفَةِ مَسَالِكِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ في الدُّخُوْلِ عَلَى السَّلاطِيْنِ والأمَرَاءِ، وذَلِكَ بدَفْعِ طُلَّابِ العِلْمِ إلى مَرَاتِعِ الشَّهَوَاتِ، ومَهَالِكِ الشُّبُهَاتِ؛ ليَهِيْمُوا في «وَادِي تُضُلِّلَ»، مِمَّا قَدْ تَعْصِفُ بِمَا بَقِيَ مِنْ عِزَّةِ أهْلِ العِلْمِ!
وذَلِكَ مِنْ خِلالِ دَعَوَاتٍ عَرِيْضَةٍ (مَرِيْضَةٍ!)، وتَصَانِيْفَ بَتْرَاءَ دَاعِيَةً مَضَامِيْنُها وعَنَاوِيْنُها إلى الدُّخُوْلِ عَلَى الأمَرَاءِ والسَّلاطِيْنِ، ولَوْ بِشَرْطِ: الأمْرِ بالمَعْرُوْفِ، والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ!، فاحْذَرْ يا طَالِبَ العِلْمِ، وانْجُ بِعِلْمِكَ، وفِرَّ بدِيْنِكَ فإنَّه رَأسُ مَالِكَ، واعْلَمْ إنَّ هَذَا الشَّرْطَ كَانَ عِنْدَ السَّلَفِ عَزِيْزًا عَسِيْرًا، أمَّا اليَوْمَ فأدْعِيَاءُ الشَّرْطِ كَثِيْرٌ، والعَامِلُوْنَ بِه نَزْرٌ يَسِيْرٌ، لا يَتَجَاوَزُوْنَ أصَابِعَ اليَدِ الوَاحِدَةِ!
* * *
ويَكْفي هُنَا مَا ذَكَرَه ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: «فَقَدْ كَانَ كَثِيْرٌ مِنَ السَّلَفِ يَنْهَوْنَ عَنِ الدُّخُوْلِ عَلَى المُلُوْكِ لِمَنْ أرَادَ أمْرَهُم بالمَعْرُوْفِ ونَهْيَهُم عَنِ المُنْكَرِ أيْضًا، ومِمَّنْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ: عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ، وابنُ المُبَارَكِ، والثَّوْرِيُّ، وغَيْرُهُم مِنَ الأئِمَّةِ.
وقَالَ ابنُ المُبَارَكِ: لَيْسَ الآمِرُ النَّاهِي عِنْدَنا مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِم (السَّلاطِيْنِ) فأمَرَهُم ونَهَاهُم، إنَّمَا الآمِرُ النَّاهِي مَنِ اعْتَزَلَهُم!
وسَبَبُ مَا يُخْشَى مِنْ فِتْنَةِ الدُّخُوْلِ عَلَيْهِم، فإنَّ النَّفْسَ قَدْ تُخَيِّلُ للإنْسَانِ إذَا كَانَ بَعِيْدًا أنَّه يَأمُرُهُم ويَنْهاهُم ويُغْلِظُ عَلَيْهِم، فإذَا شَاهَدَهُم قَرِيْبًا مَالَتْ النَّفْسُ إلَيْهِم، لأنَّ مَحَبَّةَ الشَّرَفِ كَامِنَةٌ في النَّفْسِ لَهُ، ولِذَلِكَ يُدَاهِنُهُم ويُلاطِفُهُم، ورُبَّمَا مَالَ إلَيْهِم وأحَبَّهُم، ولاسِيَّمَا إنْ لاطَفُوْه وأكْرَمُوْه، وقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُم، وقَدَ جَرَى ذَلِكَ لعَبْدِ اللهِ بنِ طَاوُوْسٍ مَعَ بَعْضِ الأمَرَاءِ بِحَضْرَةِ أبِيْه طَاوُوْسَ فَوَبَّخَهُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ.
وكَتَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إلى عَبَّادِ بنِ عَبَّادٍ، وكَانَ في كِتَابِهِ: «إيَّاكَ والأُمَراءَ أنْ تَدْنُو مِنْهُم، أو تُخَالِطَهُم في شَيْءٍ مِنَ الأشْيَاءِ.
وإيَّاكَ أنْ تُخْدَعَ ويُقَالُ لَكَ: لتَشْفَعَ وتَدْرَأ عَنْ مَظْلُوْمٍ أو تَرُدَّ مَظْلَمَةً، فإنَّ ذَلِكَ خَدِيْعَةُ إبْلِيْسَ، وإنَّمَا اتَّخَذَها فُجَّارُ القُرَّاءِ سُلَّمًا، ومَا كُفيتَ عَنِ المَسْألَةِ والفُتْيا فاغْتَنِمْ ذَلِكَ، ولا تُنَافِسْهُم«(22) انْتَهَى.
وقَالَ سُفْيَانُ أيْضًا: «مَا أخَافُ مِنْ عُقُوْبَتِهِم، إنَّما أخَافُ مِنْ كَرَامَتِهِم!»(23).
ولِهَذَا قَالَ الإمَامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: «فِتْنَتِي بالمُتَوَكِّلِ أعْظَمُ مِنْ فِتْنَتِي بالمُعْتَصِمِ!» يُشِيْرُ إلى الإكْرَامِ(24).
ورَحِمَ اللهُ ابنَ عَبْدِ البَرِّ إذْ يَقُوْلُ في «جَامِعَ بَيَانِ العِلْمِ» (1/ 644) عَنْ مَجَالِسِ أمَرَاءِ العَدْلِ والفَضْلِ: «الفِتْنَةُ فيها أغْلَبُ، والسَّلامَةُ مِنْها تَرْكُ مَا فيها».
ومَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا؛ مِنْ عَدَمِ الدُّخُوْلِ عَلى السُّلْطَانِ فَلَيْسَ بِدَعًا مِنَ القَوْلِ ولا هُجْرًا، ومَا كَانَ حَدِيْثًا يُفْتَرى؛ بَلْ هُوَ مِنْ جَادَّةِ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ وأئِمَّةِ الدِّيْنِ، وإنْ كَانَ للدُّخُوْلِ عَلَيْهِم مِنْ حَتْمٍ أو مَنْدُوْحَةٍ عَلى بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ؛ فكَما يَلي:
أوَّلاً: أنْ يَكُوْنَ الدُّخُوْلُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَابِ أمْرِهِ بالمَعْرُوْفِ، ونَهيِهِ عَنِ المُنْكَرِ، وإلاَّ.
ثَانِيًا: أنْ يَكُوْنَ الدُّخُوْلُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ التَّذْكِيْرِ والموْعِظَةِ، وإلاَّ.
ثالثًا: أنْ يَكُوْنَ الدُّخُوْلُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ إجَابَةِ دَعْوَةِ السُّلْطَانِ، وذَلِكَ فيما لَوْ أمَرَهُ وَليُّ الأمْرِ بالدُّخُوْلِ والمَجِيءِ، وإلاَّ حَسْبُكَ!
فإنَّا وإيَّاكَ؛ لَنْ نَنْسَ «ومَنْ أتَى أبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتَتَنْ»، و«إيَّاكُم وأبْوَابَ السُّلْطَانِ؛ فإنَّه قَدْ أصْبَحَ صَعْبًا هَبُوْطًا»، «وإيَّاكَ أنْ تُخْدَعَ فإنَّ ذَلِكَ خَدِيْعَةُ إبْلِيْسِ»، و«السُّلْطَانُ دَاءٌ، والعَالِمُ طَبِيْبٌ، فإذَا رَأيْتَ الطَّبِيْبَ يَجُرُّ الدَّاءَ إلى نَفْسِه فاحْذَرْهُ»، فاحْذَرَ أنْ يُرَحِّبُوا بِكَ فَتَمِيْلَ إليْهِم مَيْلاً عَظِيْمًا، والسَّلامُ عَلَيْكَ يا طَالِبَ العِلْمِ والعزَّةِ!
* * *
- أمَّا العَائِقُ الثَّالِثُ: أنْ تَحْذَرَ يَا طَالِبَ العِلْمِ مِنَ الاشْتِغَالِ والنَّظَرِ في دَرَكَاتِ الهُوْنِ والدُّوْنِ، مِنْ عُلُوْمِ أهْلِ زَمَانِنَا، ومَا هُمْ فيه مِنْ شَارَاتٍ وضْعِيَّةٍ(25)، وألْقَابٍ جَوْفَاءَ، مَا أنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ أو بُرْهَانٍ، بَلْ حَقِيْقَةُ بَعْضِهَا هَوَىً وظُنُوْنٌ يَتَغَشَّوْنَ بِهَا مَجَالِسَ العِلْمِ، ليَسْتَبِيْحُوا بِهَا زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيا، إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي!
واعْلَمْ يَا رَعَاكَ اللهُ: إنَّ العِلْمَ مَا جَاءَ عَنِ الكِتَابِ، والسُّنَّةِ، وأصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وهَذَا مَا أجْمَعَ عَلَيْه سَلَفُ الأمَّةِ.
قَالَ الإمَامُ الأوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: «العِلْمُ مَا جَاءَ عَنْ أصْحَابِ مُحَمَّدٍ، ومَا لَمْ يَجِيء عَنْهُم فَلَيْسَ بِعِلْمٍ»(26).
* * *
وهَاكَ يا طَالِبَ العِلْمِ هَذِه القَاعِدَةَ السَّلَفيةَ في وِزَانِ عُلُوْمِ السَّلَفِ وعُلُوْمِ الخَلَفِ، وهُوَ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ في «مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى»(10/ 664): «العِلْمُ المَوْرُوْثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أنْ يُسَمَّى عِلْمًا، وما سِوَاهُ إمَّا أنْ يَكُوْنَ عِلْمًا فَلا يَكُوْنُ نَافِعًا.
وإمَّا أنْ لا يَكُوْنَ عِلْمًا وإنْ سُمِّيَ بِه، ولئِنْ كَانَ عِلْمًا نَافِعًا فَلابُدَّ أنْ يَكُوْنَ في مِيْرَاثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَا يُغْنِي عَنْه مِمَّا هُوَ مِثْلُه وخَيْرٌ مِنْه!».
وقَالَ أيْضًا رَحِمَهُ اللهُ في أهَمِيَّةِ مُخَالَفَةِ أعْمَالِ الكُفَّارِ؛ ولَوْ كَانَ فِيْهِ إتْقَانٌ، مَا ذَكَرَهُ في «اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ» (1/ 172): «فإذًا المُخَالَفَةُ لَهُم (أيْ: مُخَالَفةُ الكُفَّارِ) فيها مَنْفَعَةٌ وصَلاحٌ لَنا في كُلِّ أمُوْرِنا؛ حَتَّى مَا هُم عَلَيْه مِنْ اتْقَانِ بَعْضِ أمُوْرِ دُنْيَاهُم؛ قَدْ يَكُوْنُ مُضِرًا بأمْرِ الآخِرَةِ، أو بِمَا هُوَ أهَمُّ مِنْهُ مِنْ أمْرِ الدُّنْيَا، فالمُخَالَفَةُ فيه صَلاحٌ لَنَا».
* * *
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، ويَنْقُصُ العِلْمُ، وتَظْهَرُ الفِتَنُ، ويَكْثُرُ الهَرْجُ، قِيْلَ يَا رَسُوْلَ اللهِ: أيْمُ هُوَ؟ قَالَ: القَتْلُ القَتْلُ» أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وفي هَذَا الحَدِيْثِ نُكْتَةٌ عِلْمِيَّةٌ نَفيسَةٌ ذَكَرَها الإمِامُ الحَافِظُ أبُو حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللهُ بِقَوْلِه في «مُقَدِّمَةِ المَجْرُوْحِيْنِ» (12): «في هَذَا الخَبَرِ دَلِيْلٌ عَلَى أنَّ مَا لَمْ يَنْقُصْ مِنَ العِلْمِ لَيْسَ بعِلْمِ الدِّيْنِ في الحَقِيْقَةِ!
وفيه دَلِيْلٌ عَلَى أنَّ ضِدَّ العِلْمِ يَزِيْدُ، وكُلَّ شَيْءٍ زَادَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَرْجِعُه إلى الكِتَابِ والسُّنَّةِ فَهُوَ ضِدُّ العِلْمِ» انْتَهَى.
وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِه خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ومِنْهُ نَعْلَمُ قَطْعًا؛ أنَّ كُلَّ عِلْمٍ لَمْ يَكُنْ مِنَ الدِّيْنِ فَلَيْسَ بفِقْهٍ، ومَنِ اشْتَغَلَ بغَيْرِهِ فَلَيْسَ مِمَّنْ أرَادَ اللهُ بِه خَيْرًا أصَالَةً لا حِوالَةً(27)!
* * *
وعَلَيْه؛ فاعْلَمْ إنَّ هَذِه العُلُوْمَ الطَّبِيْعِيَّةَ وغَيْرَها مِمَّا هِيَ مِنْ عُلُوْمِ الدُّنْيا (الطَّبِيْعَيَّةَ، الهَيْئَةَ، الرِّياضِيَّةَ، الهَنْدَسَةَ، الطِّبَّ وغَيْرَها)(28) الَّتِي لَمْ تَزَلْ تَزْدَادُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ؛ بأنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ بِشَيْءٍ، كَمَا أنَّه لا يَضُرُّ الجَهْلُ بِها، ولا يَنْفَعُ العِلْمُ بِها، بَلْ هِي عُلُوْمٌ دِنْيَوِيَّةٌ؛ المَقْصُوْدُ مِنْهَا عِمَارَةُ الدُّنْيَا!
يَقُوْلُ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في «مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى» (27/ 394): «لَكِنَّ المَقْصُوْدَ أنْ يُعْرَفَ أنَّ الصَّحَابَةَ خَيْرُ القُرُوْنِ، وأفْضَلُ الخَلْقِ بَعْدَ الأنْبِيَاءِ!
فَمَا ظَهَرَ (مِنَ العُلُوْمِ) فيمَنْ بَعْدَهُم مِمَّنْ يَظُنُّ أنَّها فَضِيْلَةٌ للمُتَأخِّرِيْنَ، ولَمْ تَكُنْ فيهِم فإنَّها مِنْ الشَّيْطَانِ، وهِي نَقِيْصَةٌ لا فَضِيْلَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ العُلُوْمِ، أو مِنْ جِنْسِ العِبَادَاتِ، أو مِنْ جِنْسِ الخَوَارِقِ والآيَاتِ، أو مِنْ جِنْسِ السِّيَاسَةِ والمُلْكِ؛ بَلْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَهُم أتْبَعَهُم لَهُم».
وقَالَ أيْضًا رَحِمَهُ اللهُ في «المَجْمُوْعِ» (9/ 126) في مَعْرَضِ رَدِّه عَلَى أرْبَابِ العُلُوْمِ الدِّنْيِوَيَّةِ، لاسِيَّما أرْبَابُ الفَلْسَفَةِ مِنْهُم:«فإنَّ عِلْمَ الحِسَابِ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ بالكَمِّ المُنْفَصِلِ، والهَنْدَسَةِ الَّتِي هِيَ عِلْمٌ بالكَمِّ المُتَّصِلِ عِلْمٌ يَقِيْنِيٌّ لا يَحْتَمِلُ النَّقِيْضَ البَتَّةَ: مِثْلُ جَمْعِ الأعْدَادِ وقِسْمَتِها وضَرْبِها، ونِسْبَةِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ... والمَقْصُوْدُ أنَّ هَذا العِلْمَ الَّذِي تَقُوْمُ عَلَيْه بَرَاهِيْنُ صَادِقَةٌ لَكِنْ لا تَكْمُلُ بِذَلِكَ نَفْسٌ، ولا تَنْجُو مِنْ عَذَابٍ، ولا تُنَالُ بِه سَعَادَةٌ» انْتَهى.
* * *
يَقُوْلُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في بَيَانِ أنواعِ العُلُوْمِ، مَا جَاءَ في كِتَابِه «الفَوَائِدِ» (160): «نَوْعٌ تَكْمُلُ النَّفْسُ بإدْرَاكِهِ والعِلْمِ بِه، وهُوَ العِلْمُ باللهِ وأسْمَائِه وصِفَاتِه وأفْعَالِه وكُتُبِه وأمْرِه ونَهْيِه.
ونَوْعٌ لا يَحْصُلُ للنَّفْسِ بِه كَمَالٌ: وهُوَ كُلُّ عِلْمٍ لا يَضُرُّ الجَهْلُ بِه، فإنَّه لا يَنْفَعُ العِلْمُ بِها في الآخِرَةِ.
وكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِيْذُ باللهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وهَذَا حَالُ أكْثَرِ العُلُوْمِ الصَّحِيْحَةِ المُطَابِقَةِ الَّتِي لا يَضُرُّ الجَهْلُ بِها شَيْئًا: كالعِلْمِ بالفَلَكِ ودَقَائِقِه ودَرَجَاتِه، وعَدَدِ الكَوَاكِبِ ومَقَادِيْرِها، والعِلْمِ بعَدَدِ الجِبَالِ وألْوَانِها ومَسَاحَتِها، ونَحْوِ ذَلِكَ، فَشَرَفُ العِلْمِ بِحَسَبِ شَرَفِ مَعْلُوْمِه، وشِدَّةِ الحَاجَةِ إلَيْه، ولَيْسَ ذَاكَ إلاَّ العِلْمُ باللهِ وتَوَابِعِ ذَلِكَ» انْتَهَى.
وقَالَ أيْضًا في مَعْرَضِ الرَّدِّ عَلَى عُلَمَاءِ الفَلْسَفَةِ، مَا ذَكَرَهُ في «مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ» (2/ 122): «وإمَّا عِلْمٌ طَبِيْعِيٌّ صَحِيْحٌ غَايِتُه مَعْرِفَةُ العَنَاصِرِ، وبَعْضِ خَوَاصِهَا وطَبَائِعَها، ومَعْرِفَةُ بَعْضِ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْها، ومَا يَسْتَحِيْلُ مِنَ المُوْجِبَاتِ إلَيْها، وبَعْضِ مَا يَقَعُ في العَالَمِ مِنَ الآثارِ بامْتِزَاجِها واخْتِلاطِها... وأيُّ كَمَالٍ للنَّفْسِ في هَذِا؟ وأيُّ سَعَادَةٍ لَهَا فِيْهِ؟!» انْتَهَى.
وقَالَ أيْضًا في مَعْرَضِ الرَّدِّ عَلَى أهْلِ الطِّبِّ، مَا بَيَّنَهُ في «مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ» (2/ 318-319) بِقَوْلِهِ: «وحَاجَةُ النَّاسِ إلى الشَّرِيْعَةِ ضَرُوْرَةٌ فَوْقَ حَاجَتِهم إلى أيِّ شَيءٍ، ولا نِسْبَةَ لحاجَتِهِم إلى عِلْمِ الطِّبِّ إلَيْها، ألاَ تَرَى أكْثَرَ العَالمِ، يَعِيْشُوْنَ بغَيْرِ طَبِيْبٍ؟ ولا يَكُوْنُ الطَّبِيْبُ إلاَّ في المُدُنِ الجَامِعَةِ، وأمَّا أهْلُ البَدْوِ كُلُّهُم، وأهْلُ الكَفُوْرِ (القَرْيَةِ الصَّغِيْرَةِ) كُلُّهُم، وعَامَّةُ بَنِي آدَمَ، فَلا يَحْتَاجُوْنَ إلى طَبِيْبٍ، وهُمْ أصَحُّ أبْدَانًا وأقْوَى طَبِيْعَةً ممَّنْ هُوَ مُتَقَيِّدٌ بالطَّبِيْبِ، ولَعَلَّ أعْمَارَهُم مُتَقَارِبَةٌ... إلخ.
وأمَّا مَا يُقَدَّرُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرِيْعَةِ ففَسَادُ الرُّوْحِ والقَلْبِ جُمْلَةً، وهَلاكُ الأبَدِ، وشَتَّانَ بَيْنَ هَذَا وهَلاكِ البَدَنِ بالموتِ: فَلَيْسَ النَّاسُ قَطُّ إلى شَيءٍ أحْوَجَ مِنْهُم إلى مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بهِ الرَّسُوْلُ صلى الله عليه وسلم، والقِيَامِ بِه، والدَّعْوَةِ إلَيْه، والصَّبْرِ عَلَيْه، وجِهَادِ مَنْ خَرَجَ عَنْه حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ، ولَيْسَ للعَالَمِ صَلاحٌ بِدُوْنَ ذَلِكَ البَتَّةَ» انْتَهَى.
* * *
وهَذَا الذَّهَبِيُّ رَحِمَه اللهُ أيْضًا نَجِدُه يُعِيْبُ عِلْمَ النَّحْوِ الَّذِي هُوَ أفْضَلُ وأكْمَلُ مِنْ عُلُوْمِ (القَوْمِ!) لاسِيَّمَا إذَا خَرَجَ عَنْ حَدِّه المَقْصُوْدِ، وذَلِكَ بِقَوْلِه في كِتَابِهِ «زَغَلِ العِلْمِ» (39): «النَّحْوِيُّوْنَ لا بَأسَ بِهِم، وعِلْمُهُم حَسَنٌ مُحْتَاجٌ إلَيْه، لَكِنَّ النَّحْوِيَّ إذا أمْعَنَ في العَرَبِيَّةِ، وعَرِيَ عَنْ عِلْمِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ بَقِيَ فَارِغًا بَطَّالاً لَعَّابًا، ولا يَسْألُه اللهُ والحَالَةُ هَذِه عَنْ عِلْمِه في الآخِرَةِ؛ بَلْ هُوَ كَصِنْعَةٍ مِنَ الصَّنَائِعِ: كالطَّبِّ والحِسَابِ، والهَنْدَسَةِ لا يُثَابُ عَلَيْها، ولا يُعَاقَبُ إذَا لَمْ يَتَكَبَّرْ عَلَى النَّاسِ، ولا يتَحَامَقْ عَلَيْهم، واتَّقَى اللهَ تَعَالَى، وتَوَاضَعْ وَصَانَ نَفْسَهُ» انْتَهَى.
* * *
فعَلَيْكَ أخِي طَالِبَ العِلْمِ بمَا قَالَه ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ في «بَيَانِ فَضْلِ عِلْمِ السَّلَفِ» (68): «وفي كَلامِهِم (السَّلَفِ) كِفَايَةٌ وزِيَادَةٌ، فَلا يُوْجَدُ في كَلامِ مَنْ بَعْدِهِم مِنْ حَقٍّ إلاَّ وهُوَ في كَلامِهِم مَوْجُوْدٌ بأوْجَزِ لَفْظٍ، وأخْصَرِ عِبَارَةٍ، ولا يُوْجَدُ في كَلامِ مَنْ بَعْدِهِم مِنْ بَاطِلٍ إلاَّ وفي كَلامِهِم مَا يُبَيِّنُ بُطْلانَه لمَنْ فَهِمَهُ وتَأمَّلَهُ، ويُوْجَدُ في كَلامِهِم مِنَ المعَاني البَدِيْعَةِ والمآخِذِ الدَّقِيْقَةِ مَا لا يَهْتَدِي إلَيْه مَنْ بَعْدَهُم ولا يَلِمُّ بِهِ، فَمَنْ لم يَأخُذْ العِلْمَ مِنْ كَلامِهِم فَاتَهُ ذَلِكَ الخَيْرُ كُلُّه مَعَ مَا يَقَعُ في كَثِيْرٍ مِنَ البَاطِلِ مُتَابَعَةً لمَنْ تَأخَّرَ عَنْهُم» انْتَهَى.
* * *
واعْلَمْ يا رَعَاكَ اللهُ، أنَّ العِلْمَ إذا أُطْلِقَ، فإنَّه لا يَصْدُقُ إلاَّ عَلَى العِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَضْلاً وكَمَالاً، أجْرًا ومَآلاً، عِزًّا وحَالاً...!
ومَا سِوَاهُ مِنْ عُلُوْمِ الدُّنْيا؛ فَهِي عُلُوْمٌ مُقَيَّدَةٌ بِمَا تُضَافُ إلَيْه مِنْ: حِرَفٍ ومِهَنٍ وفِكْرٍ... كعُلُوْمِ الطَّبِيْعَةِ، والفَلَكِ، والهَيْئَةِ، والحِسَابِ، والصِّنَاعَاتِ، والرِّيَاضِيَّاتِ، والهَنْدَسَةِ، والأحْيَاءِ، و(الكِيْمِيَاءِ)، و(الفيزِيَاءِ)، و(الجُغْرَافيا)، وعِلْمِ الأرْضِ (الجُيُوْلُوْجِيا)، وعِلْمِ التِّجَارَةِ، وعِلْمِ السِّيَاسَةِ، وكَذَا حِرَفِ النِّجَارَةِ، والفِلاحَةِ، والصِّنَاعَةِ، والحِيَاكَةِ إلخ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ؛ كَانَ مِنَ الخَطأ البَيِّنِ رَصْفُ تِلْكَ العَنَاوِيْنِ الرَّابِضَةِ فَوْقَ بَعْضِ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، والأطَارِيْحِ الجَامِعِيَّةِ كَقَوْلِهِم: العِلْمُ والإيْمَانُ، العِلْمُ والإسْلامُ، الإيْمَانُ مِحْرَابُ الطِّبِّ، الدِّيْنُ والعِلْمُ التَّجْرِيْبِيُّ، القُرْآنُ والإعْجَازُ العِلْمِيُّ... وغَيْرُها مِمَّا هُوَ مِنْ زَبَدِ العُلُوْمِ الدَّخِيْلَةِ، والانْهِزَامِ الجَاثِمِ عَلَى عُقُوْلِ وأقْلامِ كَثِيْرٍ مِنَ كُتَّابِ المُسْلِمِيْنَ هَذِه الأيَّامَ!
ومَا ذَاكَ الخَطَأُ الدَّارِجُ هُنَا وهُنَاكَ إلاَّ لِكَوْنِ القَوْمِ قَدْ ظَنُّوا بأنَّ العِلْمَ شَيْءٌ، والدِّيْنَ شَيْءٌ آخَرَ!
لِذَا نَجِدُهُم يُفَرِّقُوْنَ بَيْنَ الدِّيْنِ والعِلْمِ، ومَا عَلِمُوا أنَّ الدِّيْنَ الإسْلامِيَّ هُوَ العِلْمُ، والعِلْمَ دِيْنٌ؛ فانْظُرُوا عَمَّنْ تَأخُذُوْنَ دِيْنَكُم!
فإنَّ حَالَ هَذِه العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ؛ بَلْ أكْثَرِ العُلُوْمِ الصَّحِيْحَةِ المُطَابِقَةِ للعَقْلِ والتَّجْرِبَةِ؛ فإنَّه لا يَضُرُّ الجَهْلُ بِها شَيْئًا، كَمَا أنَّه لا يَنْفَعُ العِلْمُ بِها!
لِذَا؛ فلا يَهُوْلَنَّكَ يَا طَالِبَ العِلْمِ مَا يَتَجَارَى بِهِ أهْلُ زَمَانِنَا في تَسْوِيْقِ هَذِه العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ، مَعَ زُخْرُفٍ مِنَ الشَّارَاتِ والألْقَابِ في صُرُوْحِ الجَامِعَاتِ، ومَا يَقْذِفُه الإعْلامُ العَائِمُ فَوْقَ بَرَاكِيْنَ مِنَ الثَّقَافَاتِ الغَرْبِيَّةِ، كُلُّ ذَلِكَ مُحَاكَاتٌ ومُشَابَهَةٌ لِمُخَلَّفَاتِ الاسْتِعْمَارِ (الدَّمَارِ) الغَرْبِيِّ!
* * *
ومَهْمَا قِيْلَ؛ فَلَنْ يَتَعَدَّ أصْحَابُ هَذِه العُلُوْمِ الطَّبِيْعِيَّةِ وغَيْرِها (مِمَّا هِيَ مِنْ عُلُوْمِ الدُّنْيا) مَكَانَهُم مِنَ العِلْمِ؛ فَهُم لا يَعْلَمُوْنَ إلاَّ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيا؛ بَلْ هَذَا مَبْلَغُهُم مِنَ العِلْمِ، كَمَا أنَّها عُلُوْمٌ يَشْتَرِكُ فيها كُلُّ إنْسَانٍ وجَانٍّ (المُؤْمِنُ مِنْهُم والكَافِرُ)!
ومَعَ هَذَا فَلَيْسَ لَهُم فيها مِنْ الأجْرِ شَيْءٌ، اللَّهُمَّ إلاَّ إذا جَعَلُوا مِنْ هَذِه العُلُوْمِ والصِّنَاعَاتِ قُرُباتٍ، بَعْدَ اسْتِحْضَارِ قَصْدٍ ونِيَّاتٍ!
كَنِيَّةِ: التَّعَاوُنِ عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، كَمَا يَنْوِيْهِ النَّجَّارُ والفَلاحُ وغَيْرُهُما مِنْ أهْلِ الحِرَفِ والمِهَنِ، و«إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ومَهْمَا يَكُنْ؛ فالأجْرُ والخَيْرُ: في العِلْمِ الشَّرْعِيِّ أصْلٌ وغَايَةٌ، وفي غَيْرِه مِنَ عُلُوْمِ الدُّنْيا طَارِئٌ ووَسَيْلَةٌ!
* * *
وأخِيْرًا؛ فَإنَّنا لا نَقُوْلُ بطَرْحِ العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ (الطَّبِيْعِيَّةِ والتَّجْرِيْبِيَّةِ) جُمْلَةً وتَفْصِيْلاً؛ كَلاَّ!
بَلْ للتَّفْصِيْلِ اعْتِبَارٌ ومَأخَذُ، فالنَّاسُ حَوْلها طَرَفَانِ ووَسَطٌ، كَما يَلي:
الطَّرَفُ الأوَّلُ: مَنْ أفْرَطَ فِيْهَا إفْرَاطًا أخْرَجَهَا مِنْ حَدِّهَا ومَنْزِلَتِهَا إلى التَّقْدِيْسِ والغُلُوِّ؛ فَرَفَعَهَا فَوْقَ غَيْرِها مِنَ العُلُوْمِ، لاسِيَّما العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ، وأهْلُ هَذَا الطَّرَفِ فِيْهِمْ غُلُوٌّ وإسْرَافٌ مَذْمُوْمَانِ!
الطَّرَفُ الثَّاني: مَنْ عِنْدَهُ تَفْرِيْطٌ وتَقْصِيْرٌ فِيْهَا؛ حَتَّى قَطَعَ بَعْضُهُم بحُرْمَتِهَا، ومِنْهُم مَنْ صَرَّحَ بخُلُوِّهَا مِنَ الخَيْرِ والفَائِدَةِ رَأسًا، وأهْلُ هَذَا الطَّرَفِ فِيْهِم تَفْرِيْطٌ وإجْحَافٌ مَذْمُوْمَانِ!
الوَسَطُ: مَنْ قَالَ بأنَّها عُلُوْمٌ مُبَاحَةٌ: فَمِنْهَا مَا هُوَ حَلالٌ مَقْبُوْلٌ، ومِنْهَا مَا هُوَ حَرَامٌ مَرْدُوْدٌ، فَفِيْهَا الخَيْرُ والشَّرُّ كَغَيْرِهَا مِنَ العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ، والنَّاسُ إلى الخَيْرِ مِنْهَا في حَاجَةٍ وطَلَبٍ، لاسِيَّما في عِمارَةِ الأرْضِ، وصَلاحِ الدِّيْنِ والدُّنْيَا، فَهِي مِنْ بَابِ الوَسَائِلِ، و«للوَسَائِلِ أحْكَامُ المَقَاصِدِ».
وهُمْ مَعَ هَذَا لا يُخْرِجْوْنَها عَنْ حَدِّهَا وحَجْمِهَا، فَلا يَذْهَبُوْنَ بِها إلى الغُلُوِّ ولا إلى التَّفْرِيْطِ، كَما أنَّهم لا يُسَامُوْنَ بِها العُلُوْمَ الشَّرْعِيَّةَ؛ فَضْلاً عَنْ أفْضَلِيَتِّها، فَلَهَا قَدْرُهَا وتَقْدِيْرُهَا، واللهُ أعْلَمُ.
* * *
وقد اشْتَرَطَ الإمَامُ الشَّوكَانيُّ رَحِمَهُ الله (1350) لتَعَلُّمِ العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ شَرْطًا عَزِيْزًا، في كِتَابِه «أدَبِ الطَّلَبِ» (124) حَيْثُ قَالَ: «ثُمَّ لا بَأسَ عَلى مَنْ رَسَخَ قَدَمُهُ في العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ أنْ يَأخُذَ بطَرَفٍ مِنْ فُنُوْنٍ هِي مِنْ أعْظَمِ مَا يَصْقِلُ الأفْكَارَ، ويُصَفِّي القَرَائِحَ، ويَزِيْدُ القَلْبَ سُرُوْرًا والنَّفْسَ انْشِرَاحًا: كالعِلْمِ الرِّيَاضِيِّ والطَّبِيْعِيِّ، والهَنْدَسَةِ والهَيْئَةِ والطِّبِّ.
وبالجُمْلَةِ فالعِلْمُ بِكُلِّ فَنٍّ خَيْرٌ مِنَ الجَهْلِ بِه بكَثِيْرٍ ولا سِيَّما مَنْ رَشَّحَ نَفْسَهُ للطَّبَقَةِ العَلِيَّةِ والمَنْزِلَةِ الرَّفِيْعَةِ.
ودَعْ عَنْكَ مَا تَسْمَعُهُ مِنَ التَّشْنِيْعَاتِ، فإنَّها كَما قَدَّمْنَا لَكَ شُعْبَةٌ مِنَ التَّقْلِيْدِ، وأنْتَ بَعْدَ العِلْمِ بأيِّ عِلْمٍ مِنَ العُلُوْمِ: حَاكِمٌ عَلَيْهِ بِما قَدْ يَكُوْنُ لَدِيْكَ مِنَ العِلْمِ، غَيْرَ مَحكُوْمٍ عَلَيْكَ، واخْتَرْ لنَفْسِكَ مَا يَحلُو!
ولَيْسَ يُخْشَى عَلى مَنْ قَدْ ثَبَتَ قَدَمُهُ في عِلْمِ الشَّرْعِ مِنْ شَيءٍ، وإنَّما يُخْشَى عَلى مَنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتِ القَدَمِ في عُلُوْمِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، فإنَّهُ رُبَّما يَتَزَلْزَلُ وتَحُوْلُ ثِقَتُهُ؛ فإذَا قَدَّمْتَ العِلْمَ بِما قَدَّمْنَا لَكَ مِنَ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ فاشْتَغِلْ بِما شِئْتَ، واسْتَكْثِرْ مِنَ الفُنُوْنِ مَا أرَدْتَ وتَبَحَّرْ في الدَّقَائِقِ مَا اسْتَطَعْتَ، وجَاوِبْ مَنْ خَالَفَكَ وعَذَلَكَ وشَنَّعَ عَلَيْكَ، بقَوْلِ القَائِلِ:
أتَانَـا أنَّ سَهْـلاً ذَمَّ جَهْـلاً عُلُوْمًا لَيْسَ يَعْرِفُهُنَّ سَهْلُ
عُلُوْمًا لَوْ دَرَاهَا مَا تَلاهَـا ولكِنَّ الرِّضَى بالجَهْلِ سَهْلُ
إلى آخِرِ كَلامِهِ».
قُلْتُ: إنَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الإمَامُ الشَّوكَانيُّ فِيْهِ نَظَرٌ بَيِّنٌ؛ حَيْثُ اشْتَرَطَ لتَعَلُّمِ العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ شُرُوْطًا لَيْسَتْ في كِتَابٍ ولا سُنَّةٍ، بَلِ الوَاقِعُ يَشْهَدُ بخِلافِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّهُ رَحِمَهُ الله مِمَّنْ يُشَنِّعُ عَلى التَّقْلِيْدِ وأهْلِهِ، ويُحَذِّرُ مِنْهُ مَا أمْكَنَ إلَيْهِ سَبِيْلاً!
فَقَوْلُهُ رَحِمَهُ الله: ثُمَّ لا بَأسَ عَلى مَنْ رَسَخَ قَدَمُهُ في العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ أنْ يَأخُذَ بطَرَفٍ مِنَ العِلْمِ الرِّيَاضِيِّ والطَّبِيْعِيِّ، والهَنْدَسَةِ والهَيْئَةِ والطِّبِّ.
ولَيْسَ يُخْشَى عَلى مَنْ قَدْ ثَبَتَ قَدَمُهُ في عِلْمِ الشَّرْعِ مِنْ شَيءٍ، وإنَّما يُخْشَى عَلى مَنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتِ القَدَمِ في عُلُوْمِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، فإنَّهُ رُبَّما يَتَزَلْزَلُ وتَحُوْلُ ثِقَتُهُ.. إلَخْ!
كُلُّ هَذَا مِنْهُ رَحِمَهُ الله مُنْتَقَدٌ وبَعِيْدٌ، لأمُوْرٍ:
أوَّلاً: لَيْسَ هُنَاكَ دَلِيْلاً شَرْعِيًّا عَلى اشْتِرَاطِ مَنْ رَامَ تَعَلُّمَ العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ أنْ يَكُوْنَ رَاسِخًا في العِلْمِ الشَّرْعِيِّ؟
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ العُلُوْمَ الدِّنْيَوِيَّةَ مِنَ العُلُوْمِ المُبَاحَةِ، والحَالَةُ هَذِه فَهِيَ لا تَحْتَاجُ إلى رُسُوْخٍ في العِلْمِ، بَلْ هِي مِنْ شَأنِ عَامَّةِ النَّاسِ في حَيَاتِهِم الدِّنْيَوِيَّةِ، بَلْ هُنَالِكَ مِنْ آحَادِ العَامَّةِ مَنْ يُحْسِنُ مِنَ العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ مَا لا يُحْسِنُهُ كَثِيْرٌ مِنَ العُلَماءِ!
ثَانِيًا: لو أنَّنا لَوْ أخَذْنَا بِما اشْتَرَطَهُ الشَّوكَانيُّ رَحِمَهُ الله لتَعَطَّلَتْ كَثِيْرٌ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وعِمارَةِ الأرْضِ!
ثَالِثًا: لَيْسَ بالضَّرُوْرِي أنَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّمَ العُلُوْمَ الدِّنْيَوِيَّةَ أنْ يَزِلَّ، أو تَتَحَوَّلَ ثِقَتُهُ، لأنَّ دَلِيْلَ الشَّاهِدِ والحَالِ قَاضٍ بهَذَا!
إلاَّ إنَّنا مَعَ هَذَا؛ نُحَذِّرُ كَلَّ الحَذَرِ مِنَ النَّظَرِ إلى هَذِه العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ بعَيْنِ الإفْرَاطِ والانْبِهَارِ، أو الانْصَرَافِ بِها عَنْ تَعَلُّمِ وَاجِبَاتِ الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا لا يُعْذَرُ المُسْلِمُ بجَهْلِهَا، وإلاَّ وَقَعْنَا فِيْما حَذَّرَ مِنْهُ الشَّوكَانيُّ رَحِمَهُ الله، وهُوَ كَذَلِكَ!
* * *
ومِنْ آخِرِ نَحِسَاتِ أدْعِيَاءِ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ هَذِه الأيَّام، أنَّ نَابِتَةً مِنْهُم لَمْ تَزَلْ تَنْفُخُ في رَوْعِ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ بَعْضَ العُلُوْمِ التَّجْرِيْبِيَّةِ، الوَافِدَةِ مِنْ مُسْتَنْقَعَاتِ الفِكْرِ الغَرْبِي (الكَافِرِ)، ضَارِبِيْنَ بِعُلُوْمِ وكُتُبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ عُرْضَ الحَائِطِ، مُزَاحِمِيْنَ مَا كَانَ عَلَيه المُسْلِمُوْنَ مِنْ الأمْرِ الأوَّلِ: إنَّها العُلُوْمُ الإدَارِيَّةُ، والنَّفْسِيَّةُ (البَرْمَجَةُ العَصَبِيَّةُ اللُّغَوِيَّةُ)، وغَيْرُها!
فَلَيْتَ شِعْرِي؛ هَلْ نَسِيَ هُؤلاءِ (المُنْهَزِمُوْنَ) أنَّ الأمَّةَ الإسْلامِيَّةَ هَذِه الأيَّامَ في حَالٍ لا يُنَادَى وَلِيْدُها؟ مِنْ جَهْلٍ بِدِيْنِهِم، وتَفَرُّقٍ بَيْنَهُم، وضَعْفٍ لَدَيْهِم...؟! فإنْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِهَذا؛ فلِمَاذا هَذِه العُلُوْمُ الدَّخِيْلَةُ الَّتِي تُرَوَّجُ وتُسَوَّقُ بَيْنَ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ؛ حتَّى أخَذَتْ (للأسَفِ!) أخَادِيْدَ في قُلُوْبِ بَعْضِ طُلَّابِ العِلْمِ؟!
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أتَسْتَبْدِلُوْنَ الَّذِي هُو أدْنَى بالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾[البقرة: 61]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخْسَرِيْنَ أعْمَالاً، الَّذِيْنَ ضَلَّ سَعْيُهُم فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُوْنَ أنَّهُم يُحْسِنُوْنَ صُنْعًا﴾[الكهف: 103-104].
وقَالَ عَبْدُ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ رَضِي اللهُ عَنْه: «كَيْفَ أنْتُم إذا لَبِسَتْكُم فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فيها الكَبِيْرُ، ويَرْبُو فيها الصَّغِيْرُ، ويَتَّخِذُها النَّاسُ سُنَّةً، فإذا غُيِّرَتْ قَالُوا: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ!
قَالُوا: ومَتَى ذَلِكَ يا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: إذا كَثُرَتْ قُرَّاؤكُم، وقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُم، وكَثُرَتْ أمَرَاؤُكُم، وقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُم، والْتُمِسَتِ الدُّنْيا بعَمَلِ الآخِرَةِ» أخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ في «مُسْنَدِه» (191)، والحَاكِمُ في «المُسْتَدْرَكِ» (4/ 514)، وهُوَ صَحِيْحٌ.
* * *
فإنِّي أُعِيْذُكَ باللهِ يا مَنْ تَسْعَى في نَشْرِ هَذِه العُلُوْمِ الدَّخِيْلَةِ الهَجِيْنَةِ في بِلادِ المُسْلِمِيْنَ، مِمَّا يَلِي:
أوَّلًا ـ أنْ يَنَالَكَ نَصْيِبٌ مِنْ قَوْلِه صلى الله عليه وسلم: «... ومَنْ سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلِيْه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِها مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِم شَيْئًا» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وبَعْدَئِذٍ؛ فَلا تَنْسَ يَا رَعَاكَ اللهُ! مَا فَعَلَه المَأمُوْنُ يَوْمَ عُرِّبَتْ في عَهْدِه عُلُوْمُ اليُوْنانِ، والفَلاسِفَةِ مِنَ اليَهُوْدِ والنَّصَارَى والهِنْدِ: مِثْلُ الطِّبِّ، والحِسَابِ، والطَّبِيْعَةِ، والهَيْئَةِ، والمَنْطِقِ... فَلَمَّا دَرَسَها النَّاسُ، وتَنَاقَلُوْها فيمَا بَيْنَهُم؛ ظَهَرَتْ بِسَبَبِها البِدَعُ والأهْوَاءُ، وضَلَّ وابْتَعَدَ النَّاسُ عَنْ عِلْمِ النُّبُوَّةِ... فعِنْدَها كَانَ الضَّلالُ والانْحِرَافُ، والشَّرُّ الكَبِيْرُ، والفَسَادُ العَرِيْضُ!
* * *
لأجْلِ هَذا؛ كَانَ عَلَيْكَ أنْ تَقِفَ بِخَوْفِكَ عِنْدَ هَذَا العِلْمِ، لاسِيَّما إذَا عَلِمْتَ أنَّ الَّذِيْنَ ضَلُّوا وأضَلُّوا بِهَذِه العُلُوْمِ الوَافِدَةِ وَقْتَئِذٍ: هُمُ مِنَ العُلَمَاءِ!، فَكَيْفَ والحَالَةُ هَذِه إذا عَلِمَ الجَمِيْعُ أنَّ مُعْظَمَ الَّذِيْنَ يَتَجَارَوْنَ وَرَاء هَذِه العُلُوْمِ النَّكِدَةِ، ويَتَقَاطَرُوْنَ عَلَى دَوْرَاتِها: هُمُ الشَّبَابُ مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ؛ فاللهَ اللهَ فيهِم!
ثَانيًا- لا يَخْفَاكَ يَا رَعَاكَ اللهُ؛ أنَّ الأُمَّةَ بعَامَّةٍ تَعِيْشُ هَذِه الأيَّامَ جَهْلاً بدِيْنِها، لِذَا كَانَ الأوْلَى بِنا أنْ نَسْعَى حَثِيْثًا في عَوْدَةِ الأُمَّةِ إلى دِيْنِها أوَّلاً، ثُمَّ إذا كَانَ في الأمْرِ مُتَّسَعٌ فَعِنْدَئِذٍ يَكُوْنُ للكَلامِ في مِثْلِ هَذِه العُلُوْمِ الوَافِدَةِ شَيْءٌ مِنَ البَسْطِ والتَّحْرِيْرِ!
فَكُلُّ يَدٍّ مُدَّتْ إلَى هَذِه العُلُوْمِ الوَافِدَةِ لِتَنْبُشَها بَعْدَ أنْ أُقْبِرَتْ، وأصْبَحَتْ عِظَامًا نَخِرَةً، فَلَيْسَ لَها أنْ تُرَوِّجَها بَيْنَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ، ظنًّا مِنْها أنَّ الأسْمَاعَ في صَمَمٍ، وأنَّ العُيُوْنَ في سُبَاتٍ، وأنَّ الأقْلامَ والأنَامِلَ لا تَجْتَمِعَانِ(29)؟!
ثَالِثًا- ألَمْ يَأْنِ لَنا أنْ تَخْشَعَ قُلُوْبُنا لِمَا يَذْكُرُه أهْلُ هَذِه العُلُوْمِ التَّجْرِيْبِيَّةِ مِنَ الغَرْبِ والشَّرْقِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؟ فَلَمْ يَزَلْ عُقَلاؤُهُم حتَّى سَاعَتِي هَذِه وهُم يَصِيْحُونَ بِخُطُوْرَةِ هَذِه العُلُوْمِ في غَيْرِ نَدْوَةٍ، أو لِقَاءٍ، أو دَوْرَةٍ تَدْرِيْبِيَّةِ!
* * *
- أمَّا العَائِقُ الرَّابِعُ: فَهُوَ التَّخَصُّصُ (الجَامِعِيُّ!).
ومَا أدْرَاكَ مَا هُوَ؟ إنَّه مِنَ التَّشَبُّهِ المَقِيْتِ والمَوْرُوْثِ العِلْمِيِّ الوَافِدِ، يَوْمَ قَضَتِ الأقْضِيَةُ في زَمَانِنا؛ بنُبُوْغِ نَوَابِتَ في صُفُوْفِ أهْلِ العِلْمِ قَدْ ألْبَسُوْهُم ثِيَابَ التَّخَصُّصِ، وتَوَّجُوْهُم ألْقَابًا وشَارَاتٍ مُهَلِّلَةً؛ فانْتَفَخُوا في العِلْمِ وهُم خَوَاءٌ، ونَابَذُوا التَّعَالَمُ وهُم سَوَاءٌ، يَوْمَ قَصُرَتْ هِمَمُهُم وبَلَغَتْ عُلُوْمُهُم مِنَ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ جَوَانِبَ ونُتَفًا عِلْمِيَّةً، حَامِلِيْنَ في شَهَادَاتِهِمُ الجَامِعِيَّةِ تَجْزِئَةً وتَقْطِيْعًا لعُلُوْمِ الشَّرِيْعَةِ، وتَغْيِيْبًا لطَائِفَةٍ مِنْها عَنْ أحْكَامِ فِقْهِ الوَاقِعِ، وقَضَايَا الأمَّةِ المَصِيْرِيَّةِ؛ فَلا عِلْمَ بَلَغُوْه، ولا عَمَلَ نَالُوْه، ولا وَاقِعَ فَهِمُوْه!
وإمَّا يَنْزِغَنَّكَ يا طَالِبَ العِلْمِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الوَافِدِ الغَرْبِيِّ، فاسْتَعِذْ باللهِ السَّمِيْعِ العَلِيْمِ مِنْه، ولا تَطْرُقَنَّ لَه بَابًا فإنَّه مِنْ أبَوْابِ الجُمُوْدِ العِلْمِيِّ!
حَيْثُ جَاءَ بتَدَسُّسٍ إلى أمَّتِي بثِيَابِ التَّشْوِيْه العِلْمِيِّ ليَلْتَبِطَ بِخُطَاهُ في مَسَارِحِ الجَامِعَاتِ الإسْلامِيَّةِ؛ ليُفْسِدَ حَرْثَ مَا بَقِيَ مِنَ العِلْمِ الشَّامِلِ، ويَهْلِكَ نَسْلَ مَا بَقِيَ مِنَ العَمَلِ الكَامِلِ.
* * *
واعْلَمْ يَا رَعَاكَ اللهُ أنَّ التَّخَصُّصَ العِلْمِيَّ (الجَامِعِيَّ) قِسْمَانِ: مَحْمُوْدٌ، ومَذْمُوْمٌ.
- فأمَّا التَّخَصُّصُ المَحْمُوْدُ: فَهُو مَنْ جَمَعَ صَاحِبُه بَيْنَ القَدْرِ الوَاجِبِ مِنَ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ (الغَائِي مِنْها والآلِي)(30)، وبَيْنَ التَّوَسُّعِ والتَّفَنُّنِ في عِلْمٍ مَّا.
وهَذَا؛ هُوَ الَّذِي أُتِيَ صَاحِبُه مِنَ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ نَصِيْبٌ وَافِرٌ تَبْرَأ بِه الذِّمَّةُ ويَسْقُطُ بِه الطَّلَبُ، مَعَ تَخَصُّصٍ وتَفَنُّنٍ في أحَدِ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَتَرَاهُ إذا كَانَ فَقِيْهًا (مَثَلاً): قَدْ أخَذَ مِنْ عُلُوْمِ الغَايَةِ والآلَةِ: القَدْرَ الوَاجِبَ الَّذِي يُسَاعِدُه عَلَى فَهْمِ دِيْنِه بعَامَّةٍ، وبالفِقْهِ بِخَاصَّةٍ، إلاَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا قَدْ اجْتَهَدَ في فَنِّ الفِقْهِ، وبَرَّزَ فيه؛ حَتَّى عُرِفَ بِهِ ولُقِّبَ باسْمِه.
......................... فَقِسْ عَلَى قَوْلِي تَكُنْ عَلامةً!
فعِنْدَهَا؛ كَانَ التَّحْصِيْلُ العِلْمِيُّ عِنْدَ السَّلَفِ يَأخُذُ بعُلُوْمِ الشَّرِيْعَةِ جُمْلَةً وتَفْصِيْلاً، مَعَ تَفَاضُلٍ ونُبُوْغٍ في فَنٍّ دُوْنَ آخَرَ، فَهُمْ لا يَقْبَلُوْنَ في مَعَالمَ وقَوَاعِدَ وأسُسِ عُلُوْمِ الشَّرِيْعَةِ نَصْيْبًا دَانِيًا، ولا تَفَاضُلاً شَائِنًا، بَلْ تَرَاهُمْ قَدْ أخَذُوا مِنَ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ القَدْرَ الوَاجِبَ (الغَائِي مِنْها والآلِي)، مَعَ تَوَسُّعٍ في بَعْضِها، أو كُلِّها لاسِيَّما المُجْتَهِدونَ مِنْهُم.
ومِنْه تَعْلَمُ قَوْلَ المُتَقَدِّمِيْنَ: فُلانٌ أُصُوْلِيٌّ، فَقِيْهٌ، نَحْوِيٌّ، لُغَوِيٌّ، مٌفَسِّرٌ، مُحَدِّثٌ، قَارِئٌ، مُشَارِكٌ(31)... إلَخْ.
* * *
- وأمَّا التَّخَصُّصُ المَذْمُوْمُ: فَهُوَ مَنْ لَمْ يَجْمَعْ صَاحِبُه بَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، اللَّهُمَّ إنَّه تَوَسَّعَ وتَفَنَّنَ في عِلْمِ مَّا (الغَائِي مِنْها أو الآلِي)، دُوْنَ غَيْرِه مِنَ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَتَرَاهُ إذا كَانَ فَقِيْهًا (مَثَلاً): لَمْ يَأْخُذْ مِنْ عُلُوْمِ الآلَةِ، وعُلُوْمِ الغَايَةِ: القَدْرَ الوَاجِبَ الَّذِي يُسَاعِدُه عَلَى فَهْمِ دِيْنِه بِعَامَّةٍ، وبالفِقْهِ بِخَاصَّةٍ؛ بَلْ غَايَةُ مَا عِنْدَه أنَّه يُحْسِنُ مَسَائِلَ الفِقْهِ!
ومِنْه تَعْلَمُ قَوْلَ المُتَأخِّرِيْنَ: فُلانٌ أُصُوْلِيٌّ، فَقِيْهٌ، مُحَدِّثٌ، نَحْوِيٌّ، مٌفَسِّرٌ، قَارِئٌ، دَعَوِيٌّ، وَاعِظٌ... إلخ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَ كَلامِي هُنَا عَنْ أصْحَابِ هَذَا التَّخَصُّصِ، فَكُنْ عَلَى ذُكْرٍ!
* * *
ومِنْ بَعْدُ؛ فإنَّ أصْحَابَ التَّخَصُّصِ العِلْمِيِّ (المَذْمُوْمِ) لَمْ يَنْفَكُّوا عَنْ أخْطَاءَ شَرْعِيَّةٍ وآثَارٍ سَيِّئَةٍ؛ قَدْ دَفَعَتِ الأمَّةَ الإسْلامِيَّةَ (لاسِيَّمَا هَذِه الأيَّامَ) إلى مَفَاوِزَ مُهْلِكَةٍ، ومَزَالِقَ عِلْمِيَّةٍ، يَكْفي بَعْضُها لِمَسْخِ مَا بَقِيَ مِنْ تُرَاثِ أمَّتِنا الإسْلامِيَّةِ، فمِنْ ذَلِكَ:
أوَّلاً: أنَّ التَّخَصُّصَ العِلْمِيَّ الحَادِثَ بِقِسْمَيْهِ (الغَائِي والآلِي)، كَمَا هُوَ جَارٍ في خِطَّةِ تَعْلِيْمِ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ الآنَ؛ قَدْ أخَذَ مُنْحىً خَطِيْرًا في تَقْطِيْعِ أوَاصِرِ التَّرَابُطِ بَيْنَ عُلُوْمِ الشَّرِيْعَةِ، وتَقْسِيْمِها إلى أجْزَاءَ عِلْمِيَّةٍ ومُتَفَرِّقَاتٍ مُتَنَاثِرَةٍ هُنَا وهُنَاكَ؛ لا يَجْمَعُها جَامِعٌ بَتَّةً؛ فَعِنْدَها كَانَ الأثَرُ السَّيِّئُ عَلَى الحَيَاةِ العِلْمِيَّةِ والأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَدَى طُلَّابِ العِلْمِ هَذِه الأيَّامَ.
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّه لمَّا أزِفَتِ الآزِفَةُ، وأقْبَلَتِ الفِتَنُ في مَسَارِبَ مُهْلِكَةٍ، مُنْقَادَةً لتُعِيْدَها حَرْبًا صَلِيْبِيَّةً يَهُوْدِيَّةً عَلَى الإسْلامِ والمُسْلِمِيْنَ في بِلادِ فِلِسْطِيْنَ وأفْغَانِسْتَانَ والعِرَاقِ وغَيْرِها، وكَذَا مَا هُنَاكَ مِنْ هُجُوْمٍ سَافِرٍ عَلَى أخْلاقِ المُسْلِمِيْنَ، ومَنَاهِجِهِم الشَّرْعِيَّةِ، إلِى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَضَايا الأمَّةِ العَصْرِيَّةِ... ونَحْنُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ نَزَلْ نَرَى كَثِيْرًا مِنْ أرْبَابِ التَّخَصُّصِ يَعْتَذِرُوْنَ عَنْ تَخَاذُلِهِم وتَرَاجُعِهِم عَنْ عَدَمِ المُشَارَكَةِ في الذَّبِّ عَنْ قضايا أمَّتِهِم بِحُجَّةِ النَّزْعَةِ البَائِسَةِ الَّتِي رَاجَتْ في سُوْقِ أهْلِ العِلْمِ باسْمِ: التَّخَصُّصِ العِلْمِيِّ!
يُوَضِّحُه: أنَّ الفَقِيْه مِنْهُم (مَثَلاً) مِمَّنْ لَهُ مُجْمُوْعَةٌ مِنَ التَّآلِيْفِ الفِقْهِيَّةِ، والتَّحْقِيْقَاتِ الجَامِعِيَّةِ الَّتِي نَالَتْ مَرْتَبَةَ الشَّرَفِ... مَا زَالَ يَعْتَذِرُ عَنِ المُشَارَكَةِ في قَضَايا أمَّتِه الإسْلامِيَّة: بأنَّ مَا يَدُوْرُ هُنَا لَيْسَ مِنْ تَخَصُّصِهِ، وهَذَا مَا نَجِدُه في الأعَمِّ الأغْلَبِ مِنْهُم!
هَذَا إذَا عَلِمْتَ (للأسَفِ) إنَّ أمْثَالَ هَذَا الفَقِيْهِ مِنْ أهْلِ زَمَانِنا قَدْ تَجَاوَزَتْ أعْدَادُهُم المِئَاتِ.
وقِسْ عَلَى هَذَا: صَاحِبَ العَقِيْدَةِ، والتَّفْسِيْرِ والحَدِيْثِ، واللُّغَةِ وغَيْرِهِم.
* * *
ومَهْمَا يَكُنْ؛ فَلا تَعْجَبْ يَا طَالِبَ العِلْمِ إذَا عَلِمْتَ أنَّ القَوْمَ كَانُوا صَرْعَى التَّخَصُّصَاتِ العِلْمِيَّةِ، ونَتَاجَ الوَافِدِ الغَرْبِيِّ، واللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا يَصِفُوْنَ!
كَمَا كَانَ مِنْ آخِرِ سَوَالِبِ التَّخَصُّصِ الجَامِعِيِّ هَذِه الشَّارَاتُ والألْقَابُ (الجَامِعِيَّةُ!)(32)؛ الَّتِي دَفَعَتْ طَائِفَةً مِنَ المُنْتَسِبِيْنَ إلِى قَبِيْلِ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ، مِمَّنْ تَشَاغَلُوا بِهَذِه الأسْمَاءِ، وانْسَاقُوا جَرْيًا وَرَاءها السِّنِيْنَ الخَوَالِيا، إلى دُخُوْلاتِ العَطَالَةِ المُغَلَّفَةِ باسْمِ: (الحَصَانَةِ الجَامِعِيَّةِ)، فَماذَا كَانَ؟!
وَيَكْأَنَّ القَوْمَ؛ لَمْ يَنْصُرُوا حَقًّا، ولَمْ يَكْسِرُوْا بَاطِلاً: فَلا أمْرًا بِمَعْرُوْفٍ ولا نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، ولا جِهَادًا ولا اجْتِهَادًا؛ بَلْ رَأيْنا مِنْ بَعْضِهِم مَنْ كَانَ مُجِدًّا في الطَّلَبِ والطَّاعَةِ؛ حَتَّى إذا أوْحَى إلَيْه شَيَاطِيْنُ الإنْسِ والجِنِّ بأهَمِّيَةِ هَذِه الشَّارَاتِ والألْقَابِ... إذا بِهِ يُصْبِحُ فَاتِرَ العَزِيْمَةِ، ذَابِلَ الطَّاعَةِ، قَلِيْلَ الاجْتِهَادِ والمُجَاهَدَةِ؛ أمَّا إذا سَألْتَ عَنْ الزهد وجَلَدِ الطَّاعَةِ، وهَيْبَةِ أهْلِ العِلْمِ ووَرَعِهِم: فَلا تَسْأَلْ؟ فتِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي، وقَلِيْلٌ مَا هُم!
وهَكَذَا حَتَّى أصْبَحَ أهْلُ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ في هَامِشِ الذَّاكِرَةِ الإعْلامِيَّةِ، وفي زَوَايا الجَامِعَاتِ العِلْمِيَّةِ، وذَلِكَ (للأسَفِ) باسْمِ: التَّخَصُّصِ الجَامِعِيِّ!
* * *
ثَانيًا: اعْلَمْ أنَّ فَهْمَ عُلُوْمِ الآلَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
القِسْمُ الأوَّلُ: فَهْمٌ وَاجِبٌ، وهُوَ مَا يَسْقُطُ بِه الطَّلَبُ وتَبْرَأُ بِه الذِّمَّةُ، وهُوَ القَدْرُ الَّذِي يَشْتَرِكُ فيهِ عَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ، وهَذَا القِسْمُ لا يَجُوْزُ لطَالِبِ العِلْمِ القُصُوْرُ فيه... كما أنَّه سِلاحُ طُلَّابِ العِلْمِ في التَّعَامُلِ مَعَ كُتُبِ أهْلِ العِلْمِ الفِقْهِيَّةِ مِنْهَا والعَقِيْدَةِ والحَدِيْثِ والتَّفْسِيْرِ وغَيْرِها؛ فبِهَذا القَدْرِ مِنْها يَسْتَطِيْعُ مَعْرِفَةَ لُغَةِ واصْطِلاحِ القَوْمِ في فُنُوْنِهِم، ومَا زَادَ عَلَى هَذا الحَدِّ فَهُو فُضْلَةٌ لا يَحْتَاجُه إلاَّ مَنْ رَامَ مَرَاتِبَ الاجْتِهَادِ!
القِسْمُ الثَّانِي: فَهْمٌ مُسْتَحَبٌّ، وهُو الإحَاطَةُ بَغَالِبِ عُلُوْمِ الآلَةِ المُخْتَصَرَاتِ مِنْها والمُطَوَّلاتِ؛ بِحَيْثُ لا يَتْرُكُ مِنْها شَارِدَةً ولا وَارِدَةً إلاَّ وَقَدْ أحَاطَ بِها في الجُمْلَةِ، وهَذا القِسْمُ في حَقِيْقَتِه هُوَ مِنْ مَسَالِكِ طُلَّابِ مَنَازِلِ الاجْتِهَادِ، مِمَّنْ عَلَتْ هِمَّتُهُم وتَاقَتْ نُفُوْسُهُم لِيَقِفُوا في مَصَافِ أئِمَّةِ الاجْتِهَادِ، كالأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِم.
* * *
يَقُوْلُ ابنُ القَيَّمِ رَحِمَه اللهُ فيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ والكَلامِ عَنْه، مَا ذَكَرَهُ في كِتَابِهِ «مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ» (1/ 485): «ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُوْلُ: إنَّ عُلُوْمَ العَرَبِيَّةِ مِنَ التَّصْرِيْفِ، والنَّحْوِ، واللُّغَةِ، والمَعَاني، والبَيَانِ، ونَحْوِها تَعَلُّمُها فَرْضُ كِفَايَةٍ لِتَوَقُّفِ فَهْمِ كَلامِ اللهِ ورَسُوْلِه عَلَيْها؟!
ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُوْلُ: تَعَلُّمُ أصُوْلِ الفِقْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لأنَّه العِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ به الدَّلِيْلُ ومَرْتَبَتُه، وكَيْفيةُ الاسْتِدَلالِ؟!
ثُمَّ قَالَ رَحِمَه اللهُ: إنَّ الفَرْضَ الَّذِي يَعُمُّ وُجُوْبُه كُلَّ أحَدٍ: هُوَ عِلْمُ الإيْمانِ وشَرَائِعِ الإسْلامِ، فَهَذا هُوَ الوَاجِبُ، وأمَّا مَا عَدَاهُ فإنْ تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَتُه عَلَيْه فَهُو مِنْ بَابِ مَا لا يَتِمُّ الوَاجِبُ إلاَّ بِه، ويَكُوْنُ الوَاجِبُ مِنْه القَدْرَ المُوْصِلَ إلَيْه دُوْنَ المسَائِلِ الَّتِي هِيَ فَضْلَةٌ لا يَفْتَقِرُ مَعْرِفَةُ الخِطَابِ وفَهْمُه إلَيْها.
فَلا يُطْلَقُ القَوْلُ بأنَّ عِلْمَ العَرَبِيَّةِ وَاجِبٌ عَلى الإطْلاقِ؛ إذْ الكَثِيْرُ مِنْه، ومِنْ مَسَائِلِه وبُحُوْثِه لا يَتَوَقَّفُ فَهْمُ كَلامِ اللهِ ورَسُوْلِه عَلَيْها، وكَذا أُصُوْلُ الفِقْهِ؛ القَدْرُ الَّذِي يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الخِطَابِ عَلَيْهِ مِنْه تَجِبُ مَعْرِفَتُه دُوْنَ المسَائِلِ المُقَرَّرَةِ والأبْحَاثِ الَّتِي هِيَ فَضْلَةٌ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ تَعَلُّمَها وَاجِبٌ؟!
وبالجُمْلَةِ؛ فالمطْلُوْبُ الوَاجِبُ مِنَ العَبْدِ مِنَ العُلُوْمِ والأعْمالِ مَا إذا تَوَقَّفَ عَلى شَيءٍ مِنْهَا؛ كَانَ ذَلِكَ الشَّيءُ وَاجِبًا وُجُوْبَ الوَسَائِلِ، ومَعْلُوْمٌ أنَّ ذَلِكَ التَّوَقُّفَ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الأشْخَاصِ والأزْمَانِ والألْسِنَةِ والأذْهَانِ، فَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، واللهُ أعْلَمُ» انْتَهَى.
ويَقُوْلُ الإمَامُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَه اللهُ أيضًا في كِتَابِهِ «زَغَلِ العِلْمِ» (41) مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ والكَلامِ عَنْه: «أُصُوْلُ الفِقْهِ لا حَاجَةَ لَكَ بِه يَا مُقَلِّدُ، ويَا مَنْ يَزْعُمُ أنَّ الاجْتِهَادَ قَدْ انْقَطَعَ!
ومَا بَقِيَ مُجْتَهِدٌ ولا فَائِدَةَ في أُصُوْلِ الفِقْهِ، إلاَّ أنْ يَصِيْرَ مُحَصِّلُهُ مُجْتَهِدًا بِه، فإذَا عَرَفَه ولَمْ يَفُكَّ تَقْلِيْدَ إمَامِهِ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا؛ بَلْ أتْعَبَ نَفْسَه ورَكَّبَ عَلَى نَفْسِه الحُجَّةَ في مَسَائِلَ، وإنْ كَانَ يَقْرَأُ لِتَحْصِيْلِ الوَظَائِفِ ولِيُقَالَ، فَهَذَا مِنَ الوَبَالِ، وهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الخَبَالِ» انْتَهَى.
* * *
فانْظُرْ يَا رَعَاكَ اللهُ إلى قَوْلِه:«ومَا بَقِيَ مُجْتَهِدٌ ولا فَائِدَةَ في أُصُوْلِ الفِقْهِ، إلاَّ أنْ يَصِيْرَ مُحَصِّلُهُ مُجْتَهِدًا بِه»، لتَعْلَمَ أنَّ كَثِيْرًا مِنْ أهْلِ التَّخَصُّصِ في أُصُوْلِ الفِقْهِ قَدْ غَالَوْا وكَابَرُوا هَذَا العِلْمَ، وهَمْ مَعَ هَذَا لا يَتَجَاوَزُنَ في قِرَاءاتِهِم كُتُبَ الفِقْهِ المُدَوَّنَةِ، هَذَا إذَا عَلِمْنا أنَّ الاجْتِهَادَ المُطْلَقَ في زَمَانِنا مُنْدَثِرٌ بَيْنَ أهْلِه مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيْدٍ؛ فَلا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله!
ومِنْ خِلالِ مَا مَضَى؛ نَسْتَطِيْعُ أنْ نَقِفَ عَلَى بَعْضِ الأخْطَاءِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ حَصِيْلَةَ المُتَخَصِّصِيْنَ في عُلُوْمِ الآلَةِ باخْتِصَارٍ:
1ـ أنَّ التَّخَصُّصَ والتَّفَنُّنَ في عُلُوْمِ الآلَةِ لا يَكُوْنُ إلاَّ لِمَنْ رَامَ دَرَجَةَ الاجْتِهَادِ، وإلاَّ وَقَعْنَا في حَيْصَ بَيْصَ، وهَذَا لا نَجِدُه عِنْدَ أهْلِ التَّخَصُّصِ مِنْ أهْلِ زَمَانِنا!
2ـ أنَّ كَثِيْرًا مِنَ المُتَخَصِّصِيْنَ في أُصُوْلِ الفِقْهِ (مَثَلاً) مِنْ أهْلِ مِصْرِنا في هَذِه البِلادِ (حَفِظَها اللهُ مِنْ كُلِّ سُوْءٍ) نَرَاهُم لا يَقْرَؤُوْنَ مِنْ كُتُبِ الفِقْهِ غَالِبًا إلاَّ كُتُبَ الفِقْهِ الحَنْبَلِيَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ «زَادِ المُسْتَقْنِعِ»، وانْتِهَاءً بـ«المُغْنِي»، ومَهْمَا اتَّسَعَتْ قِرَاءتُهُم لكُتُبِ الفِقْهِ الأُخْرَى، فإنَّهم أبْعَدُ مَا يَكُوْنُوْنَ عَنْ مَرَاتِبِ الاجْتِهَادِ.
* * *
وهَذَا في حَدِّ ذَاتِه يُعْتَبَرُ تَضْيِيْعًا للأوْقَاتِ، وتَبْدِيْدًا للطَّاقَةِ لَدَى طُلَّابِ التَّخَصُّصِ؛ حَيْثُ نَجِدُهُم يَسْتَكْثِرُوْنَ مِنْ قِرَاءةِ كُتُبِ «أُصُوْلِ الفِقْهِ» سَوَاءٌ عِنْدَ الأحْنَافِ، أو المَالِكِيَّةِ، أو الشَّافِعِيَّةِ، أو الحَنَابِلَةِ، ورُبَّما جَمَعُوْا بَيْنَها، كُلُّ هَذَا (للأسَفِ) عَلَى حِسَابِ الفِقْهِ الشَّرْعِيِّ العَامِّ، والخِلافِ العَالِي!
ثَالثًا: إذَا عَلِمْنا أنَّ عُلُوْمَ الغَايَةِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيْعَةِ، وأنَّ عُلُوْمَ الآلَةِ مِنْ الوَسَائِلِ، والحَالَةُ هَذِه كَانَ مِنَ الخَطأ البَيِّنِ، والفَسَادِ الوَاضِحِ أنْ نُغَلِّبَ جَانِبَ الوَسَائِلِ عَلَى المَقَاصِدِ، وإلاَّ كنَّا مُغَالِيْنَ مُتَكَلِّفينَ!
* * *
ومَا أحْسَنَ مَا ذَكَرَهُ العَلَّامَةُ ابنُ خُلْدُونٍ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ «المُقَدِّمةِ» (1/ 622): «وأمَّا العُلُوْمُ الَّتِي هِيَ آلَةٌ لِغَيْرِها: مِثْلُ العَرَبِيَّةِ والمَنْطِقِ وأمْثَالِهِما؛ فَلا يَنْبَغِي أنْ يُنْظَرَ فيها إلاَّ مِنْ حَيْثُ هِي آلَةٌ لِذَلِكَ الغَيْرِ فَقَطُ، ولا يُوَسَّعُ فيها الكَلامُ، ولا تُفَرَّعُ المَسَائِلُ؛ لأنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُ بها عَنِ المَقْصُوْدِ، فكُلَّمَا خَرَجَتْ عَنِ المَقْصُوْدِ، صَارَ الاشْتِغَالُ بِهَا لَغْوًا، ورُبَّمَا يَكُوْنُ ذَلِكَ عَائِقًا عَنْ تَحْصِيْلِ العُلُوْمِ المَقْصُوْدَةِ بالذَّاتِ لِطُوْلِ وَسَائِلِها؛ مَعَ أنَّ شَأنَها أهَمُّ، والعُمُرُ يَقْصُرُ عَنْ تَحْصِيْلِ الجَمِيْعِ عَلَى هَذِه الصُّوْرَةِ، فَيَكُوْنُ الاشْتِغَالُ بِهَذِه العُلُوْمِ الآلِيَّةِ تَضْيِيْعًا للعُمُرِ وشُغُلاً بِمَا لا يُغْنِي!
وهَذَا كَمَا فَعَلَهُ المُتَأخِّرُوْنَ في صِنَاعَةِ النَّحْوِ، وصِنَاعَةِ المَنْطِقِ، لا بَلْ وأُصُوْلِ الفِقْهِ؛ لأنَّهُم أوْسَعُوا دَائِرَةَ الكَلامِ فيها نَقْلاً واسْتِدْلالاً، وأكْثَرُوا مِنَ التَّفَارِيْعِ والمَسَائِلِ بِمَا أخْرَجَها عَنْ كُوْنِها آلَةً، ورُبَّما ذَكَرُوا مَسَائِلَ لا حَاجَةَ بِها في العُلُوْمِ المَقْصُوْدَةِ بالذَّاتِ، فإذَا قَطَعُوا العُمُرَ في تَحْصِيْلِ الوَسَائِلِ فَمَتَى يَظْفَرُوْنََ بالمَقَاصِدِ؟ فلِهَذَا يَجِبُ عَلَى المُعَلِّمِيْنَ لِهَذِه العُلُوْمِ الآلِيَّةِ أنْ لا يَسْتَبْحِرُوا في شَأنِهَا، ولا يَسْتَكْثِرُوا مِنْ مَسَائِلِها، ويُنَبِّهُ المُتَعَلِّمَ عَلَى الغَرَضِ مِنْها» انْتَهَى بتَصَرُّفٍ واخْتِصَارٍ.
* * *
رَابعًا: أنَّ العِلاقَةَ بَيْنَ عُلُوْمِ الغَايَةِ والآلَةِ عِلاقَةٌ طَرْدِيَّةٌ، لاسِيَّما مِنْ جِهَةِ الوَسَائِلِ، فعِنْدَئِذٍ كُلَّمَا ازْدَادَ طَالِبُ العِلْمِ مِنْ عُلُوْمِ الآلَةِ، كَانَ عَلَيْه أنْ يَزْدَادَ مِنْ عُلُوْمِ الغَايَةِ ضَرُوْرَةً، وإلاَّ كَانَ هَذَا تَنَاقُضًا بَيِّنًا، وخَلَلاً وَاضِحًا في الطَّلَبِ والقَصْدِ.
ومِنْه نَعْرِفُ حِيْنَئِذٍ: الحِنْثَ العَظِيْمَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يَتَنَاقَلْهُ أهْلُ التَّخَصُّصِ العِلْمِيِّ هَذِه الأيَّامِ، يَوْمَ نَرَاهُم لا يَتَقَيَّدُوْنَ بِهَذِه القَاعِدَةِ الطَّرْدِيَّةِ بَيْنَ عُلُوْمِ الغَايَةِ والآلَةِ، فَتَجِدُ أحَدَهُم قَدْ طَالَ بِهِ العُمُرُ في تَحْصِيْلِ: أُصُوْلِ الفِقْهِ (مَثَلاً) وهُوَ لا يُحْسِنُ مِنَ الفِقْهِ إلاَّ مَا يُحْسِنُه طُلَّابُ العِلْمِ المُبْتَدِئِيْنَ، أو مُقَلِّدُو المَذْهَبِ.
وهَذَا الصَّنِيْعُ مِنْهُم مِمَّا يَزِيْدُنا يَقِيْنًا بأنَّ التَّخَصُّصَ العِلْمِيَّ: زَغَلٌ في العِلْمِ، ودَسِيْسَةٌ في الطَّلَبِ، واللهُ المُوَفِّقُ والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* * *
وآخَرُوْنَ مِنْ وَرَائِهِم قَدْ تَخصَّصُوا في التَّخَصُّصِ (؟!)، حَيْثُ تَجِدُ بعْضَهَم قَدْ تَخصَّصَ في عُلُوْمِ القُرآنِ مَثْلاً، إلاَّ إنَّه لا يُحسِنُ مِنْ عُلُومِ القُرْآنِ إلاَّ: دِرَاسَةَ مَنَاهِجِ المؤلِّفِينَ في التَّفْسِيرِ، وطَرَائِقِ التَّفْسيرِ الصَّحِيحِ مِنْها والبَاطِلِ، وعِلْمِ القِرَاءاتِ، وإعْجَازِ القُرآنِ، ولرُبَّما لَيْسَ لبَعْضِهِم مِنَ العِلْمِ إلاَّ تحْقِيْقَ مَخْطُوْطَةٍ لبَعْضِ عُلُوْمِ القُرآنِ... كُلُّ ذَلِكَ للأسَفِ كَانَ مِنْهم عَلى حِسَابِ فَهْمِهِم وعِلْمِهِم لتَفْسِيرِ القُرآنِ بخَاصَّةٍ، نَاهِيْكَ عَلى حِسَابِ عُلُوْمِ الشَّرِيْعَةِ بعَامَّةٍ!
* * *
أمَّا مُحدِّثُو زَمَانِنا فَأمرٌ لا يُنَادَى وَلِيْدُه، فَأكثَرُهُم للأسَفِ إلاَّ مَا رِحَمَ اللهُ، لا يُحسِنُ مِنْ عُلُومِ الحَدِيْثِ إلاَّ: مُصْطَلَحَ الحَدِيْثِ، ابتِدَاءً بالبَيْقُونيَّةِ، ومُرُورًا بنُخْبَةِ الفِكَرِ، وانتِهَاءً بمُقَدِّمَةِ ابنِ الصَّلاحِ، ومَا حَامَ في حِماهَا، مِنْ شَرْحٍ، واخْتِصَارٍ، وتَقْييدٍ وتَوضِيْحٍ، ونُكَتٍ، واسْتِدْرَاكٍ، ونَظْمٍ... إلَخْ.
وقَدْ زَادَ الطِّينَ بِلَّةً؛ أنَّ أكثَرَ مُحدِّثِي زَمَانِنا (زَعَمُوا) لَيْسَ لهُم مِنْ عُلُوْمِ الحَدِيْثِ: إلاَّ تَخرِيْجَ الحَدِيْثِ، ودِرَاسَةَ مَنَاهِجِ المُحَدِّثِينَ في كُتُبِهِم، ولرُبَّما لَيْسَ لبَعْضِهِم مِنَ العِلْمِ إلاَّ تحْقِيْقَ مَخْطُوْطَةٍ لبَعْضِ عُلُوْمِ الحَدِيْثِ... كُلُّ ذَلِكَ للأسَفِ كَانَ مِنْهم عَلى حِسَابِ فَهْمِهِم وعِلْمِهِم وحِفْظِهِم للحَدِيْثِ النَّبَويِّ بخَاصَّةٍ، نَاهِيْكَ عَلى حِسَابِ عُلُوْمِ الشَّرِيْعَةِ بعَامَّةٍ!
ونَفَرٌ آخَرُ مِنْهُم ممَّنْ مَسَّتْهُ وَخْزَاتُ التَّخَصُّصِ: قَدْ أشْغَلَ نَفْسَه وطُلَّابَه ببَعْضِ الدَّوْرَاتِ الإدَارِيَّةِ، والبَرامِجِ العَصِبيَّةِ، واللهُ المُسْتَعَانُ عَلى مَا يَصِفُوْنَ!
* * *
- أمَّا العَائِقُ الخَامِسُ: فَهُوَ فُضُوْلُ المُبَاحَاتِ، ومَا أدْرَاكَ مَا فُضُوْلُ المُبَاحَاتِ؟ إنَّهَا المُهْلِكَاتُ، فإذَا كَانَ المَاءُ والنَّارُ لا يَجْتَمِعَانِ، فَكَذِلَكَ طَلَبُ العِلْمِ لا يَجْتَمِعُ مَعَ فُضُوْلِ المُبَاحَاتِ، ولا يَكَادُ!
وحَسْبُكَ مِنْها: فُضُوْلُ النَّظَرِ، والكَلامِ، والطَّعامِ، والنَّوْمِ، ومُخَالَطَةِ النَّاسِ، فإنَّ التَّوَسُّعَ في هَذِه المُبَاحَاتِ بَرِيْدُكَ يَا طَالِبَ العِلْمِ إلى الانْقِطَاعِ أو الفُتُوْرِ، كَما أنَّها مَجْلَبَةٌ للمَعَاصِي!
فَيَا للأَسَفِ!؛ لَقَدْ تَوَسَّعَ كَثِيْرٌ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ مِنْ أهْلِ زَمَانِنا في فُضُوْلِ المُبَاحَاتِ؛ مِمَّا أبْعَدَهُم عَنِ التَّحْصِيْلِ، ورُبَّمَا انْقَطَعَ بِهِم الطَّلَبُ، وهُم بَعْدُ لَمْ يَتَغَرْغَرُوا بالعِلْمِ!
فالحَذَرَ الحَذَرَ يَا طَالِبَ العِلْمِ مِنْ فُضُوْلِ المُبَاحَاتِ، يَقُوْلُ ابنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ في «صَيْدِ الخَاطِرِ» (214): «واعْلَمْ أنَّ فَتْحَ بَابِ المُبَاحَاتِ رُبَّمَا جَرَّ أذَىً كَثِيْرًا في الدِّيْنِ!».
ويَقُوْلُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في «بَدَائِعِ الفَوَائِدِ» (2/ 229): «إمْسَاكُ فُضُوْلِ النَّظَرِ، والكَلامِ، والطَّعامِ، ومُخَالَطَةِ النَّاسِ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ إنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى ابنِ آدَمَ، ويَنَالُ غَرَضَه مِنْه مِنْ هَذِه الأبْوَابِ الأرْبَعَةِ!».
وقَالَ أيضًا رَحِمَهُ اللهُ في «الفَوَائِدِ» (146): «قَسْوَةُ القَلْبِ في أرْبَعَةِ أشْيَاءٍ إذَا جَاوَزَتْ قَدْرَ الحَاجَةِ: الأكْلُ، والنَّوْمُ، والكَلامُ، والمُخَالَطَةُ!».
* * *
فَكَانَ مْنَ خَالِصَةِ الذِّكْرَى أنْ يَحْذَرَ طَالِبُ العِلْمِ مِنْ فُضُوْلِ المُبَاحَاتِ، وأنْ يَطْوِيَ بِسَاطَهَا طَيًّا، لاسِيَّما ممَّنْ رَامَ مَرَاتِبَ العُلَماءِ، ومَنَازِلَ الحُكَماءِ!
فاحْذَرْ يا طَالِبَ العِلْمِ: أنْ يَمَسَّكَ قَرْحُ التَّرفِ والسَّرَفِ؛ فَإنَّهُما مَذْمُوْمَانِ شَرْعًا وعُرْفًا، وإيَّاكَ والتَّنَعُّمَ؛ فَإنَّه يُوْرِثُ التَّخَنُّثَ (عَيَاذًا بالله!)، فَإنِّي رَأيْتُ ثَلاثَتَهَا مَجامِعَ الفُضُوْلِ والتَّبَسُّطِ، ومَنَابعَ التَّرهُّلِ والرِّقَّةِ، فاحْذَرْ، وإلاَّ فالطَّرِيْقُ مَسْدُوْدَةٌ والبُلْغَةُ مَفْقُوْدَةٌ، فَدْوْنَ ما تَتَمَنَّى خَرْطُ القَتَادِ!
* * *
فَهَذِه انْتِقَاءَاتٌ مُخْتَصَرَاتٌ مِنْ مَأثُوْرَاتِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ؛ تَأخُذُ بحُجَزِ طُلَّابِ العِلْمِ مِنْ مُوَاقَعَةِ: فُضُوْلِ الكَلامِ، والطَّعامِ، والنَّظَرِ، والنَّوْمِ، والمُخَالَطَةِ، فتأمَّلها فإنَّها عَزِيْزَةٌ!
- فأمَّا فُضُوْلُ الكَلامِ:
فَقَدْ قَالَ تَعَالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيْبٌ عَتِيْدٌ﴾[ق: 18].
وقَدْ نَصَّ كَثِيْرٌ مِنَ السَّلَفِ عَلى أنَّ المَلَكَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيءٍ ممَّا يَقُوْلُهُ العَبْدُ: خَيْرًا كَانَ أو شَرًّا أو مُبَاحًا!
وإلَيْهِ ذَهَبَ ابنُ عَبَّاسٍ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، وقَتَادَةُ السُّدُوْسِيُّ وغَيْرُهُم.
يَقُوْلُ ابنُ عَبَّاسِ رَضِي الله عَنْهُما في مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ: «يُكْتَبُ كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِه مِنْ خَيْرٍ أو شَرِّ؛ حَتَّى إنَّه ليُكْتَبُ قَوْلُهُ: أكَلْتُ، شَرِبْتُ، ذَهَبْتُ، جِئْتُ رَأيْتُ».
وقَدْ ذُكِرَ أنَّ الإمَامَ أحمَدَ رَحِمَهُ الله كَانَ يَئِنُّ في مَرَضِهِ، فَبَلَغَهُ عَنْ طَاوُوْسَ أنَّه قَالَ: يَكْتُبُ المَلَكُ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى الأنَيْنَ، فَلَمْ يَئِنْ أحمْدُ؛ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ الله»(33).
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ، فلْيَقُلْ خَيْرًا، أو ليَصْمُتْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بالمرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في المُقَدِّمَةِ.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيْهِ» أخْرَجَهُ أحمَدُ، والتِّرمِذِيُّ، وهُوَ صَحِيْحٌ.
وهَذَا ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ الله يَسُوْقُ لَنَا في شَرْحِ هَذَا الحَدِيْثِ دُرَرًا غَوَالي، إذْ يَقُوْلُ في «جَامِعِ العُلُوْمِ والحِكَمِ» (1/ 287): «ومَعْنَى هَذَا الحَدِيْثِ أنَّ مِنْ حُسْنِ إسْلامِهِ تَرْكَ ما لا يَعْنِيْهِ: مِنْ قَوْلٍ أو فِعْلٍ، واقْتَصَرَ عَلى مَا يَعْنِيْهِ مِنَ الأقْوَالِ والأفْعَالِ.
ومَعْنَى: يَعْنِيْهِ أنَّه تَتَعَلَّقُ عِنَايَتُهُ بِه، ويَكُوْنُ مِنْ مَقْصَدِه ومَطْلُوْبِهِ، والعِنَايَةُ شِدَّةُ الاهْتِمامِ بالشَّيءِ؛ يُقَالُ: عَنَاهُ يَعْنِيْهِ إذَا اهْتَمَّ بِهِ وطَلَبَهُ، ولَيْسَ المُرَادُ أنَّه يَتْرُكُ مَا لا عِنَايَةَ لَه بِه ولا إرَادَةً بحُكْمِ الهَوَى وطَلَبِ النَّفْسِ؟!
بَلْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ والإسْلامِ، ولهذَا جَعَلَهُ مِنْ حُسْنِ الإسْلامِ» انْتَهَى.
* * *
ومِنْ بَابَةِ الحَذَرِ مِنْ فُضُوْلِ الكَلامِ؛ مَا ذَكَرَتْهُ خَوْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ الأنْصَارِيَّةُ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: جَاءنَا رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ الله، بَلَغَنِي عَنْكَ أنَّكَ تُحَدِّثُ أنَّ لَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَوْضًا مَا بَيْنَ كَذَا إلى كَذَا؟
قَالَ: «أجَلْ، وأحَبُّ النَّاسِ إليَّ أنْ يَرْوَى مِنْهُ قَوْمُكِ»، قَالَتْ: فَقَدَّمْتُ إلَيْهِ بُرْمَةً (قِدْرٌ مِنْ حَجَرٍ) فِيْهَا خُبْرَةٌ -أو خَزِيْرَةٌ- (طَعَامٌ مِنْ لحْمٍ) فَوَضَعَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَهُ في البُرْمَةِ ليَأكُلَ، فاحْتَرَقَتْ أصَابِعُهُ، فَقَالَ: «حَسِّ»، (كَلِمَةُ تَوَجُّعٍ ممَّا أصَابَهُ)، ثُمَّ قَالَ: «ابنُ آدَمَ إنْ أصَابَهُ البَرْدُ، قَالَ حَسِّ، وإنْ أصَابَهُ الحَرُّ، قَالَ: حَسِّ» أخْرَجَهُ أحمَدُ (45/ 296)، ورِجَالُه رِجَالُ الصَّحِيْحِ.
فَانْظُرْ؛ إلى كَرَاهَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ فُضُوْلِ الكَلامِ، ومَا لا فَائِدَةَ فِيْهِ، ولَوْ كَانَ تَأفُّفًا في تَوَجُّعٍ!
بَلْ مَا فَائِدَةُ قَوْلِكَ يا طَالِبَ العِلْمِ: «حَسِّ»، عِنْدَ قَرْصِ بَرْدٍ، أو إزْعَاجِ حرٍّ؟ فاللَّهُمَّ ارْحَمْنَا، آمِيْنَ!
قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِي الله عَنْهُ: «رَحِمَ الله امْرَأً أمْسَكَ فَضْلَ القَوْلِ، وقَدَّمَ فَضْلَ العَمَلِ»(34).
وقَدْ كَانَ مَالِكُ بنُ أنَسٍ رَحِمَهُ الله يُعِيْبُ كَثْرَةَ الكَلامِ، ويَقُوْلُ: «لا يُوْجَدُ (فُضُوْلُ الكَلامِ) إلاَّ في النِّسَاءِ، والضُّعَفَاءِ!»(35)، أيْ: ضُعَفَاءَ الرِّجَالِ في الدِّيْنِ، أو العَقْلِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ فُضُوْلَ الكَلامِ في قَانُوْنِ السَّلَفِ: هُوَ كُلُّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنَ العَبْدِ لَيْسَتْ مِنَ الفَائِدَةِ في شَيءٍ، وهَذَا مَا ذَكَرَهُ عَطَاءُ بنُ أبي رَبَاحٍ رَحِمَهُ الله، إذْ يَقُوْلُ: «كَانُوا (السَّلَفُ) يَكْرَهُوْنَ فُضُوْلَ الكَلامِ، وكَانُوا يَعُدُّوْنَ فُضُوْلَ الكَلامِ: مَا عَدَا كِتَابَ الله أنْ تَقْرَأهُ، أو أمْرًا بالمعْرُوْفِ أو نَهيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أو أنْ تَنْطِقَ في مَعِيْشَتِكَ بِما لا بُدَّ لَكَ مِنْه!»(36).
ومِنْ مَحاسِنَ غُبَّارَاتِ الزَّمَنِ الأوَّلِ: أنَّ الرَّبِيْعَ بنَ خُثَيْمٍ رَحِمَهُ الله؛ حِيْنَما جَاءتْهُ ابْنَتُهُ وعِنْدَهُ أصْحَابُه، فَقَالَتْ: يا أبَتَاهُ أذْهَبُ ألْعَبُ؟ فَقَالَ: لا!
فَقَالَ القَوْمُ: يَا أبا يَزِيْدَ ائْذَنْ لها تَلْعَبُ! قَالَ: يُوْجَدُ ذَلِكَ في صَحِيْفَتِي أنِّي قُلْتُ لها: الْعَبِي، ولَكِنْ اذْهَبِي فَقُوْلي خَيْرًا!(37) انْتَهَى.
قُلْتُ: هَذَا سَنَدٌ عَالٍ، ووَرَعٌ عَالٍ، لكِنَّ الله عَفُوٌّ كَرِيْمٌ!
أمَّا إنْ سَألْتَ عَنْ هَلاكِ النَّاسِ، فَهُو ما ذَكَرَهُ إبْرَاهِيْمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ الله: «إنَّما أهْلَكَ النَّاسَ: فُضُوْلُ الكَلامِ، وفُضُوْلُ المَالِ!»(38).
أمَّا عَنْ قَسْوَةُ القَلْبِ، فَكَما ذَكَرَهُ الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ الله؛ أنَّه قَالَ: «شَيْئَانِ يُقَسِّيَانِ القَلْبَ: كَثْرَةُ الكَلامِ، وكَثْرَةُ الأكْلِ!»(39).
* * *
- أمَّا فُضُوْلُ الطَّعَامِ:
فَكَما قَالَ تَعَالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِيْنَتَكُم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِيْنَ﴾[الأعراف:31].
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَمَعَ الله الطِّبَّ كُلَّهُ في نِصْفِ آيَةٍ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِيْنَ﴾.
فأمَّا الإسْرَافُ المَذْمُوْمُ في الآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ الله في «تَفْسِيْرِهِ» (249)، إذْ يَقُوْلُ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾: أيْ ممَّا رَزَقَكُمُ الله مِنَ الطَّيِّبَاتِ، ﴿ولا تُسْرِفُوا﴾: في ذَلِكَ، والإسْرَافُ: إمَّا أنْ يَكُوْنَ بالزِّيَادَةِ عَلى القَدْرِ الكَافي والشَّرَهِ في المأكُوْلاتِ الَّتِي تَضُرُّ بالجِسْمِ، وإمَّا يَكُوْنَ بزِيَادَةِ التَّرَفُّهِ والتَّنَوُّعِ في المأكَلِ والمَشْرَبِ واللِّبَاسِ، وإمَّا بتَجَاوُزِ الحَلالِ إلى الحَرَامِ» انْتَهَى.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا مَلأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ أكَلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كَانَ لا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لطَعَامِهِ، وثُلُثٌ لشَرَابِهِ، وثُلُثٌ لنَفَسِهِ» أخْرَجَهُ أحمَدُ، والتِّرمِذِيُّ، وهُوَ صَحِيْحٌ.
* * *
ولا تَحْسِبَنَّ يَا رَعَاكَ الله أنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأصْحَابُه في حَيَاتِهِمْ مِنْ طُوْلِ جُوْعٍ، وقِلَّةِ زَادٍ: بأنَّهُم أقَلُّ فَضْلٍ مِنْ غَيْرِهِم، وأنْقَصٌ حَالٍ ممَّنْ دُوْنَهُم؟! كَلَّا!
بَلْ كَانُوا في أفْضَلِ حَالٍ، وأكْمَلِ مَآلٍ، وهَذَا مَا ذَكَرَهُ ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ الله في «جَامِعِ العُلُوْمِ والحِكَمِ» (2/ 475)، إذْ يَقُوْلُ عَنْهُم: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأصْحَابُه يَجُوْعُوْنَ كَثِيْرًا، ويَتَقَلَّلُوْنَ مِنْ أكْلِ الشَّهَوَاتِ، وإنْ كَانَ ذَلِكَ لعَدَمِ وُجُوْدِ الطَّعَامِ؛ إلاَّ إنَّ الله لا يخْتَارُ لرَسُوْلِهِ إلاَّ أكْمَلَ الأحْوَالِ وأفْضَلِها؛ ولهذَا كَانَ ابنُ عُمَرَ يَتَشَبَّهُ بِهِم في ذَلِكَ مَعْ قُدْرَتِهِ عَلى الطَّعَامِ، وكَذَلِكَ أبُوْهُ مِنْ قَبْلِهِ» انْتَهَى.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ القُرُوْنِ قَرْني، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُم، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُم، ثُمَّ يَأتي قَوْمٌ يَشْهَدُوْنَ ولا يُسْتَشْهَدُوْنَ، ويَنْذُرُوْنَ ولا يُوْفُوْنَ، ويَظْهَرُ فِيْهِمُ السِّمنُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لِذَا كَانَ السَّلَفُ يُحَذِّرُوْنَ مِنَ السِّمْنَةِ والبِطْنَةِ، وهَذَا مَا ذَكَرَهُ ابنُ رَجَبٍ نَفْسُه (ص471) عَنْ سَلَمَةَ بنِ سَعِيْدٍ قَالَ: «إنْ كَانَ الرَّجُلُ ليُعيَّرُ بالبِطْنَةِ، كَما يُعَيَّرُ بالذَّنْبِ يَعْمَلُهُ».
قُلْتُ: هَذا التَّعْيِيْرُ فِيْما إذَا كَانَ الرَّجُلُ سَبَبًا في سِمْنَتِه؛ لاسِيَّما إذَا كَانَ أكُوْلاً ذَا شَرَهٍ، وإلاَّ: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا!
* * *
كَما كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُوْنَ أنْ يُرْسِلَ المُسْلِمُ عَنَانَ بَطْنِهِ وَرَاءَ ما يَشْتَهِي ويَهْوَى!
وهَذَا مَا ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ، أنَّه لمَّا دَخَلَ عَلى ابْنِهِ عَبْدِ الله، وإذَا عِنْدَهُ لحْمٌ، فَقَالَ لَه: مَا هَذَا اللَّحْمُ؟ فَقَالَ: اشْتَهَيْتُهُ، قَالَ: أوَ كُلمَّا اشْتَهَيْتَ شَيْئًا أكَلْتَهُ؟ كَفَى بالمرْءِ سَرَفًا أنْ يَأكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَاهُ!(40) انْتَهَى.
وأبْلَغُ مِنْهُ مَا قَالَهُ أيْضًا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ؛ حِيْنَ خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: «إيَّاكُمْ والبِطْنَةَ، فإنَّها مَكْسَلَةٌ عَنِ الصَّلاةِ، مُؤذِيَةٌ للجِسْمِ، وعَلَيْكُم بالقَصْدِ في قُوْتِكِم، فإنَّه أبْعَدُ مِنَ الأشَرِ، وأصَحُّ للبَدَنِ، وأقْوَى عَلى العِبَادَةِ، وأنَّ امْرأً لَنْ يُهْلَكَ حَتَّى يُؤثِرَ شَهْوَتَهُ عَلى دِيْنِهِ!»(41).
وقَالَ أيْضًا عَمْرُو بنُ قَيْسٍ رَحِمَهُ الله: «إيَّاكُم والبِطْنَةَ؛ فَإنَّها تُقَسِّي القَلْبَ»(42).
* * *
وهَذَا مَا يُؤكِّدُهُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله في كِتَابِهِ البَدِيْعِ «بَدَائِعِ الفَوَائِدِ» (2/ 820) إذْ يَقُوْلُ: «وأمَّا فُضُوْلُ الطَّعَامِ فَهْوَ دَاعٍ إلى أنْوَاعٍ كَثِيْرةٍ مِنَ الشَّرِّ؛ فإنَّه يُحَرِّكُ الجَوَارِحَ إلى المَعَاصِي، ويُثْقِلُهَا عَنِ الطَّاعَاتِ ـ وحَسْبُكَ بهَذَيْنَ شَرًّا ـ فَكَمْ مِنْ مَعْصِيَةٍ جَلَبَهَا الشِّبَعُ وفُضُوْلُ الطَّعَامِ، وكَمْ مِنْ طَاعَةٍ حَالَ دُوْنَها، فَمَنْ وُقِيَ شَرَّ بَطْنِهِ فَقَدْ وُقِيَ شَرًّا عَظِيمًا، والشَّيْطَانُ أعْظَمُ مَا يَتَحَكَّمُ مِنَ الإنْسَانِ إذَا مَلأ بَطْنَهُ مِنَ الطَّعَامِ!
ثُمَّ قَالَ: ولَوْ لم يَكُنْ في التَّملِّي مِنَ الطَّعَامِ إلاَّ إنَّه يَدْعُو إلى الغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ الله عَزَّ وجَلَّ، وإذَا غَفَلَ القَلْبُ عَنِ الذِّكْرِ سَاعَةً وَاحِدَةً جَثَمَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ ووَعَدَهُ ومَنَّاهُ وشَهَّاهُ، وهَامَ بِه في كُلِّ وَادٍ، فإنَّ النَّفْسَ إذا شَبِعَتْ تَحَرَّكَتْ وجَالَتْ وطَافَتْ عَلى أبْوَابِ الشَّهَوَاتِ، وإذَا جَاعَتْ سَكَنَتْ وخَشَعَتْ وذَلَّتْ!» انْتَهَى.
وكَذَا يَقُوْلُ ابنُ الجَوْزِيُّ رَحِمَهُ الله في «صَيْدِ الخَاطِرِ» (451): «فأمَّا التَّوَسُّعُ في المطَاعِمِ؛ فإنَّه سَبَبُ النَّوْمِ، والشِّبَعُ يُعْمِي القَلْبَ، ويُهْزِلُ البَدَنَ ويُضْعِفُهُ».
* * *
ومِنْ طَرِيْفِ حَبْسِ النَّفْسِ عَنْ فُضُوْلِ الطَّعَامِ، وحَبْسِها عَلى مُلازَمَةِ العِلْمِ، مَا ذَكَرَهُ ابنُ الجَوْزِيُّ رَحِمَهُ الله في «صَيْدِ الخَاطِرِ» (278): أنَّ بَعْضَ الفُقَهَاءِ قَالَ: بَقِيْتُ سِنِيْنَ اشْتَهِي الهَرِيْسَةَ لا أقْدِرُ عَلَيْها؛ لأنَّ وَقْتَ بَيْعِهَا وَقْتَ سَماعِ الدَّرْسِ!» انْتَهَى.
اللَّهُمَّ؛ ارْحَمْ ضَعْفَنَا، وأجْبِرْ كَسْرَنَا، ومَنْ يُطِيْقُ هَذَا؟ لكنَّنا نَعْلَمُ يَقِيْنًا أنَّ القَوْمَ في صِدْقٍّ مَعَ الله، وحَالٍ مَعَ العِلْمِ مَا يَعْجَبُ المرْءُ مِنْهُ؛ حتَّى إنَّ الرَّجُلَ الصَّادِقَ مِنْ أهْلِ زَمَانِنَا في طَلَبِ العِلْمِ ليَتَصَاغَرُ أمَامَهُمْ، فَكَيْفَ السَّبِيْلُ والحَالَةُ هَذِه لمَنْ يَطْلُبُ العِلْمَ عَلى فَتْرةٍ في دِرَاسَةٍ، أو جَاهٍ في شُهْرَةٍ، أو مُمارَاةٍ في تَعَالمٍ؟!
ومَهْما جَاءَ مِنْ أثرٍ هُنَا؛ إلاَّ إنَّ الاعْتِدَالَ والقَصْدَ في الأكْلِ: هُوَ مَطْلَبٌ شَرعِيٌّ، ومَأرَبٌ صِحِّيٌّ، فالغُلُوُّ والتَّفْرِيْطُ لَيْسَ مِنْ جَادَّةِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ، وخَيْرُ الأمُوْرِ أوْسَاطُهَا، كَما ذَكَرَهُ عُمَرُ رَضِيَ الله عَنْهُ وغَيْرُهُ.
أمَّا مَنِ ابْتُليَ بِشَيءٍ مِنَ البِطْنَةِ أو السِّمْنَةِ؛ فَعَلَيْهِ بالحِمْيَةِ الشَّرعِيَّةِ، وذَلِكَ بالصِّيَامِ، أو التَّدَرُّجِ في تَقْلِيْلِ الطَّعَامِ والشَّرابِ، وعَدَمِ التَّرسُّلِ في كُلِّ ما تَشْتَهِيْهِ النَّفْسُ وتَهوَاهُ!
* * *
- ومَا أخْرَجَهُ الطَّبرانيُّ في «المُعْجَمِ الأوْسَطِ» وغَيْرِهُ: «صُوْمُوا تَصِحُّوا» لا يَصِحُّ بِمَرَّةٍ!
ودَعْ عَنْكَ مَا يُسَمَّى: (بالرِّجِيْمِ) الَّذِي تَبَارَى في حَلَبَتِهِ أكْثَرُ أهْلِ زَمَانِنا مَا بَيْنَ: جَرِيْحٍ وطَرِيْحٍ، وبَيْنَ كَالٍ ومُعْتَلٍّ؛ حَيْثُ أخَذَ مِنْهُم مَآخِذَ وطَرَائِقَ شَتَّى: سَوَاءٌ في طَرِيْقَةِ تَوْظِيْفِهِ، أو تَنْوِيْعِ أسْمائِهِ؛ حَتَّى إنَّه صَرَفَ كَثِيرًا مِنْ أهْلِ السِّمْنَةِ عَنِ الحِمْيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَما أنَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ نَصِيْبًا، ونَعُوْذُ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ (الرَّجِيْمِ)!
وقَدْ نَصَّ ابنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ في كِتَابِه «مُخْتَصَرِ مِنْهَاجِ القَاصِدِيْنَ» (177) عَلى طَرِيْقَةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ؛ إذْ يَقُوْلُ رَحِمهُ الله: «وطَرِيْقُ الرِّيَاضَةِ في كَسْرِ شَهْوَةِ البَطْنِ أنَّ مَنْ تَعَوَّدَ اسْتِدَامَةَ الشِّبَعِ؛ فَيَنْبَغِي لَه أنْ يُقَلِّلَ مِنْ مَطْعَمِهِ يَسِيْرًا يَسِيْرًا مَعَ الزَّمَانِ إلى أنْ يَقِفَ عَلى حَدِّ التَّوَسُّطِ الَّذِي أشَرْنَا إلَيْهِ، وخَيْرُ الأمُوْرِ أوْسَاطُها.
فالأوْلى تَنَاوُلُ مَا لا يَمْنَعُ مِنَ العِبَادَاتِ، ويَكُوْنُ سَببًا لبَقَاءِ القُوَّةِ، فَلا يُحِسُّ المُتَنَاوِلُ بجُوْعٍ ولا شِبَعٍ؛ فَحِيْنَئِذٍ يَصِحُّ البَدَنُ، وتَجْتَمِعُ الهِمَّةُ، ويَصْفُو الفِكْرُ، ومَتَى زَادَ الأكْلُ أوْرَثَهُ كَثْرَةَ النَّوْمِ، وبَلادَةَ الذِّهْنِ» انْتَهَى.
* * *
- أمَّا فُضُوْلُ النَّظَرِ:
قَالَ تَعَالى: ﴿ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أزْوَاجًا مِنْهُم زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيا لنَفْتِنَهُم فِيْهِ ورِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبْقَى﴾[طه:131].
قَال ابنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ الله في «تَفْسِيْرِهِ» (5/ 326): «يَقُوْلُ تَعَالى لنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ الله وسَلامُهُ عَلَيْهِ: لا تَنْظُرْ إلى هَؤلاءِ المُتْرَفِيْنَ، وأشْبَاهِهِم ونُظَرائِهِم، ومَا هُمْ فِيْهِ مِنَ النِّعَمِ، فَإنَّما هُوَ زَهْرَةٌ زَائِلَةٌ، ونِعْمَةٌ حَائِلَةٌ، لنَخْتَبِرَهُم بذَلِكَ، وقَلِيْلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُوْرُ» انْتَهَى.
ويَقُوْلُ ابنُ سَعْدِي رَحِمَهُ الله في «تَفْسِيرِه» (466) في مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ: «أيْ: ولا تَمُدَّ عَيْنَيْكَ مُعْجَبًا، ولا تُكَرِّرَ النَّظَرَ مُسْتَحْسِنًا إلى أحْوَالِ الدُّنْيَا والمُمَتَّعِيْنَ بِها مِنَ المآكِلِ والمَشَارِبِ اللَّذِيْذَةِ، والمَلابِسِ الفَاخِرَةِ، والبُيُوْتِ المُزَخْرَفَةِ، والنِّسَاءِ المُجَمَّلَةِ؛ فإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ زَهْرَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا تَبْتَهِجُ بها نُفُوْسُ المُغْتَرِّيْنَ، وتَأخُذُ إعْجَابًا بأبْصَارِ المُعْرِضِيْنَ، ويَتَمَتَّعُ بها -بقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الآخِرَةِ- القَوْمُ الظَّالمُوْنَ، ثُمَّ تَذْهَبُ سَرِيْعًا وتَمْضِي جَمِيْعًا، وتَقْتُلُ مُحِبِّيهَا وعُشَّاقَهَا؛ فَيَنْدَمُوْنَ حَيْثَ لا تَنْفَعُ النَّدَامَةُ، ويَعْلَمُوْنَ مَا هُم عَلَيْهِ إذَا قَامُوْا يَوْمَ القِيَامَةِ؟
وإنَّما جَعَلَهَا الله فِتْنَةً واخْتِبَارًا ليَعْلَمَ مَنْ يَقِفَ عِنْدَهَا ويَغْتَرَّ بِها، ومَنْ هُوَ أحْسَنُ عَمَلاً» انْتَهَى.
وقَالَ ابنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ الله في كِتَابِ «مُخْتَصَرِ الفَتَاوَى المِصْرِيَّةِ» (35) في مَعْنَى هَذِه الآيَةِ: «النَّظَرُ إلى الأشْجَارِ والخَيْلِ والبَهَائِمِ إذَا كَانَ عَلى وَجْهِ اسْتِحْسَانِ الدُّنْيَا والرِّيَاسَةِ والمَالِ فَهُوَ مَذْمُوْمٌ.
لَقَوْلِ الله تَعَالى: ﴿ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أزْوَاجًا مِنْهُم زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيا لنَفْتِنَهُم فِيْهِ ورِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبْقَى﴾.
وأمَّا إذَا كَانَ عَلى وَجْهٍ لا يُنقِصُ الدِّيْنَ، وإنَّما فِيْهِ رَاحَةٌ للنَّفْسِ فَقَطُ، كالنَّظَرِ إلى الأزْهَارِ، فَهَذَا مِنَ البَاطِلِ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِه عَلى الحقِّ» انْتَهَى.
وهَذَا ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله نَجِدُهُ في «بَدَائِعِ الفَوَائِدِ» (2/ 817)، يُحَذِّرُ مِنْ فُضُوْلِ النَّظَرِ مُبيِّنًا غَوَائِلَهُ، وآثَارَهَ السَّيِّئَةِ، بقَوْلِهِ: «فُضُوْلُ النَّظَرِ يَدْعُو إلى الاسْتِحْسَانِ، ووُقُوْعِ صُوْرَةِ المَنْظُوْرِ إلَيْهِ في القَلْبِ، والاشْتِغَالِ بِهِ، والفِكْرِ في الظَّفَرِ بِهِ، فَمَبْدَأُ الفِتْنَةِ مِنْ فُضُوْلِ النَّظَرِ... فالحَوَادِثُ العِظَامُ إنَّما كُلُّهَا مِنْ فُضُوْلِ النَّظَرِ، فَكَمْ نَظْرَةٍ أعْقَبَتْ حَسَرَاتٍ لا حَسْرَةً.
- كَما قَالَ الشَّاعِرُ:
كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَأُهَا مِنَ النَّظَـرِ ومُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ في قَلْبِ صَاحِبِهَا فَتْكَ السِّهَامِ بَلا قَوْسٍ ولا وَتَـرِ
- وقَالَ الآخَرُ:
وكُنْتَ مَتَى أرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا لقَلْبِكَ يَوْمًا أتْعَبَتْكَ المَنَاظِـرُ
رَأيْتُ الَّذِي لا كُلُّهُ أنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ولا عَنْ بَعْضِهِ أنْتَ صَابِرُ
* * *
وهَذَا أبو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ الله عَنْهُ يُحَذِّرُ مَوَاطِنَ النَّظَرِ بِقْوْلِهِ: «إيَّاكُمْ والسُّوْقَ، فإنَّها تُلْغِي وتُلْهِي»(43)، نَعَمْ؛ لأنَّ السُّوْقَ مَوْرِدُ النَّظَرِ إلى الصُّوَرِ، ومَثَارَةُ التَّلَفُّتِ إلى الزِّيْنَةِ والفِتْنَةِ!
وقَدْ عَدَّ بَعْضُ السَّلَفِ كَثْرَةَ الالْتِفَاتِ مِنْ خَوَارِمِ المُرُوْءَةِ، وهَذَا مَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيْمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ الله: «لَيْسَ مِنَ المُرُوْءَةِ كَثْرَةُ الالْتِفَاتِ في الطَّرِيْقِ!»(44).
ومِثْلُهُ أيْضًا كَثْرَةُ الالْتِفَاتِ بَعْدَ الانْصَرَافِ مِنَ الصَّلاةِ؛ حَيْثُ نَجِدُ بَعْضًا مِنَ المُصَلِّيْنَ (للأسَفِ!) إذا سَلَّمَ مِنْ صَلاتِه؛ لا يَسْأمُ مِنَ الالْتِفَاتِ يَمِيْنًا وشِمَالاً، ويُقَلِّبُ نَاظِرَيْهِ في وُجُوْهِ المُصَلِّيْنَ!
وهُنَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ نَوَادِرِ التَّوَرُّعِ وغَضِّ البَصَرِ، وهُوَ أنَّ رَجُلاً سَألَ دَاوُدَ الطَّائيَّ رَحِمَهُ الله، فَقَالَ: لَوْ أمَرْتَ بِما في سَقْفِ البَيْتِ مِنَ العَنْكَبُوْتِ فنُظِّفْ؟!
فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ الطَّائيُّ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ مُجَاهِدًا كَانَ العَنْكَبُوْتُ في دَارِهِ ثَلاثِيْنَ سَنَةً لم يَشْعُرْ بِهِ(45)؟!
قُلْتُ: أيْ: مَا زَالَتِ العَنَاكِبُ تَنْسِجُ بِيُوْتَها وتَعِيْشُ عَلى سَقْفِ بَيْتِهِ مُنْذُ ثَلاثِيْنَ، وهُوَ لا يَعْلَمُ ولا يَنْظُرُ!
والعَجَبُ مَوْصُولاٌ لا يَنْقَطِعُ؛ إذَا عَلِمْنَا أنَّ القَوْمَ في حَالٍ مَعَ الله تَعَالى، وفي انْقِطَاعٍ عَنِ الدُّنْيَا ممَّا كَانَ سَبَبًا في صَرْفِ هِمَمِهِم عَنْ فُضُوْلِ النَّظَرِ، فإنْ فَهِمْتَ هَذَا مِنْهُم، وإلاَّ تَجَاوَزْهُ إلى مَا تَسْتَطِيْعُ؟!
وهَذَا لَوْنٌ آخَرُ في وَرَعِ القَوْمِ وعُلُوِّ هِمَمِهِم، وهو أنَّ يَحْيَى بنَ يَحْيَى اللَّيْثِيَّ فَقِيْهَ الأنْدَلُسِ رَحِمَهُ الله لمَّا رَحَلَ إلى المَدِيْنَةِ النَّبَوِيَّةِ ليَطْلُبَ العِلْمَ عِنْدَ الإمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ الله، فَبَيْنَما هُوَ جَالِسٌ إذْ مَرَّ عَلى بَابِ مَالِكٍ الفِيْلُ!
فَخَرَجَ كُلُّ مَنْ كَانَ في مَجْلِسِهِ لِرُؤْيَةِ الفِيْلِ، سِوَى يَحْيَى بنِ يَحْيَى، وبَقِيَ مَكَانَهُ!
فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: لِـمَ لا تَخْرُجُ فَتَرَى الفِيْلَ؛ لأنَّه لا يَكُوْنُ في الأنْدَلُسِ؟
فَقَالَ يَحْيَى: إنَّما جِئْتُ مِنْ بَلَدِي لأنْظُرَ إلَيْكَ، وأتَعَلَّمَ مِنْ هَدْيِكَ وعِلْمِكَ، ولم أجِئ لأنْظُرَ إلى الفِيْلِ، فأُعْجِبَ بِهِ مَالِكٌ، وسَمَّاهُ: عَاقِلَ الأنْدَلُسِ(46)!
فافَهَمْ هَذَا أيْضًا؛ وإلاَّ تجاوَزْهُ، فالعُقُوْلُ قَاصِرَةٌ، والهِمَمُ مُتَقَاصِرَةٌ، والله المُسْتَعَانُ وعَلَيْهِ التُّكْلانُ!
* * *
- أمَّا فُضُوْلُ النَّوْمِ:
فَقَدْ قَالَ الله تَعَالى: ﴿كَانُوا قَلِيْلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُوْنَ * وبالأسْحَارِ هُم يَسْتَغْفِرُونَ﴾[الذاريات: 17-18].
أيْ: كَانُوا يُكَابِدُوْنَ قِيَامَ اللَّيْلِ فَلا يَنَامُوْنَ مِنَ اللَّيْلِ إلاَّ أقَلَّهُ، بَلْ لا تَمرُّ عَلَيْهِم لَيْلَةٌ إلاَّ أخَذُوْا حَظَّهُمْ مِنَ الصَّلاةِ، لِذَا كَانَ طُوْلُ النَّوْمِ وفُضُوْلُهُ مَانِعًا عَنِ القِيَامِ، وقَاطِعًا لتَحْصِيْلِ الخَيْرِ!
قَالَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ الله: «لَيْسَ مِنْ بَنِي آدَمَ أحَبُّ إلى شَيْطَانِهِ مِنَ الأكُوْلِ النَّوَامِ!»(47).
وفَوْقَ ذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ الله: يَرَوْنَ كَثْرَةَ النَّوْمِ والطَّعَامِ ذَنْبًا مُتَوَقِّفٌ عَلى التَّوْبَةِ، وهَذَا مَا قَالَهُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ الله: «تُوْبُوا إلى الله مِنْ كَثْرَةِ النَّوْمِ والطَّعَامِ!».
* * *
أمَّا مَنْهَجُ السَّلَفِ في النَّوْمِ فَكَانَ قَصْدًا في اعْتِدَالٍ، فَلا يَنَامُوْنَ تَكَثُّرًا ولا تَشَهِّيًا، بَلْ يَنَامُوْنَ إذَا غَلَبَهُمُ النُّوْمُ وجَثَمَ، وإذَا نَامُوا أخَذُوا حَظًّا مِنَ الكِفَايَةَ بِقَدْرِ مَا يُعِيْنَهُم عَلى عَمَلِ الدِّيْنِ والدُّنْيَا!
وهَذَا مَا نصَّ عَلَيْهِ ابنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ رَحِمَهُ الله في «مُخْتَصَرِ مِنْهَاجِ القَاصِدِيْنَ» (59)، إذْ يَقُوْلُ: «ويَنْبَغِي أنْ لا يَنَامَ حَتَّى يَغْلِبَهُ النَّوْمُ، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ لا يَنَامُوْنَ إلاَّ غَلَبَةً».
* * *
- أمَّا فُضُوْلُ المُخَالَطَةِ:
لا شَكَّ أنَّ العُزْلَةَ والخَلْوَةَ بذِكْرِ الله تَعَالى، ومُحَاسَبَةَ النَّفْسِ في الخَلَوَاتِ مِنَ العُبُوْدِيَّةِ الَّتِي أمَرَنَا الله بِها، فَفِي القُرْآنِ والسُّنَّةِ الشَّيءُ الكَثِيْرُ مِنَ الأوَامِرِ والشَّوَاهِدِ الدَّاعِيَةِ إلى ذِكْرِ الله تَعَالى، والتَّفَكُّرِ في خَلْقِهِ وآلائِهِ، ومُحَاسَبَةِ النَّفْسِ!
فَقَدَ ذَكَرَ ابنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ رَحِمَهُ الله في «مُخْتَصَرِ مِنْهَاجِ القَاصِدِيْنَ» (114)، أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: «خُذُوا حَظَّكُم مِنَ العُزْلَةِ».
وكَذَا قَالَ مَسْرُوْقٌ رَحِمَهُ الله: «إنَّ المرْءَ لحقِيْقٌ أنْ يَكُوْنَ لَهُ مَجَالِسُ يَخْلُو فِيْهَا فَيْذْكُرَ فِيْهَا ذُنُوْبَهُ، فَيَسْتَغْفِرَ مِنْهَا»(48).
وهَذَا شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله، يَقُوْلُ في «مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى» (10/ 405، 426): «وأمَّا اعْتِزَالُ النَّاسِ في فُضُوْلِ المُبَاحَاتِ ومَا لا يَنْفَعُ ـ وذَلِكَ بالزُّهْدِ فِيْهِ ـ فَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ».
وقَالَ أيْضًا: «ولا بُدَّ للعَبْدِ مِنْ أوْقَاتٍ يَنْفَرِدُ بها بنَفْسِهِ في دُعَائِه وذِكْرِه، وصَلاتِه وتَفَكُّرِه، ومُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وإصْلاحِ قَلْبِهِ» انْتَهَى.
* * *
لِذَا كَانَ فُضُوْلُ المُخَالَطَةِ بَريْدًا لقَسْوَةِ القَلْبِ، وقَاطِعًا لطَرِيْقِ الخَيْرِ والتَّفَكُّرِ، وطَلَبِ التَّوْبَةِ، نَاهِيْكَ مَطَالِبَ العِلْمِ ومَدَارِجَ العُلَماءِ!
وهَذَا مَا ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله في «بَدَائِعِ الفَوَائِدِ» (2/ 821) بِقَوْلِهِ: «إنَّ فُضُوْلَ المُخَالَطَةِ: هِيَ الدَّاءُ العُضَالُ الجَالِبُ لِكُلِّ شَرٍّ، وكَمْ سَلَبَتِ المُخَالَطَةُ والمُعَاشَرَةُ مِنْ نِعْمَةٍ؟ وكَمْ زَرَعَتْ مِنْ عَدَاوَةٍ؟ وكَمْ غَرَسَتْ في القُلْبِ مِنْ حَزَازَاتٍ تَزُوْلُ الجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ وهِيَ في القُلُوْبِ لا تَزُوْلُ؟! فَفُضُوْلُ المُخَالَطَةِ فِيْهِ خَسَارَةُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وإنَّما يَنْبَغِي للعَبْدِ أنْ يَأخُذَ مِنَ المُخَالَطَةِ بمِقْدَارِ الحَاجَةِ» انْتَهَى.
* * *
ثُمَّ؛ إيَّاكَ يَا طَالِبَ العِلْمِ: أنَّ تَظُنَّ بأنَّ الجُلُوْسَ مَعَ الصَّالحِيْنَ خَيْرٌ كُلُّهُ، وفَضْلٌ جُلُّهُ، دُوْنَ تَقْيِيْدٍ بحَالٍ أو اعْتِبَارٍ بمَقَالٍ؟!
وهَذَا مَا قَرَّرَهُ ابنُ القَيِّمِ في كِتَابِهِ «الفَوَائِدِ» (80)، إذْ ذَكَرَ بَعْضَ آفَاتِ الاجْتِماعِ مَعَ الصَّالحِيْنَ مَا يَعِزُّ وُجُوْدُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ رَحِمَهُ الله؛ إذْ يَقُوْلُ: «الاجْتِماعُ بالإخْوَانِ قِسْمانِ:
أحَدُهُمَا: اجْتِماعٌ عَلى مُؤانَسَةِ الطَّبْعِ، وشُغْلِ الوَقْتِ؛ فَهَذَا مَضَرَّتُه أرْجَحُ مِنْ مَنْفَعَتِه، وأقَلُّ مَا فِيْهِ أنْ يُفْسِدَ القَلْبَ، ويُضَيِّعَ الوَقْتَ.
الثَّاني: الاجْتِماعُ بِهِم عَلى التَّعَاوُنِ عَلى أسْبَابِ النَّجَاةِ، والتَّوَاصِي بالحَقِّ والصَّبْرِ؛ فَهَذَا أعْظَمُ الغَنِيْمَةِ وأنْفَعِهَا؛ ولَكِنْ فِيْهِ ثَلاثُ آفَاتٍ:
أحَدُهَا: تَزَيُّنُ بَعْضِهِم لبَعْضٍ.
الثَّانِيَةُ: الكَلامُ والخُلْطَةُ أكْثَرَ مِنَ الحَاجَةِ.
والثَّالِثَةُ: أنْ يَصِيْرَ ذَلِكَ شَهْوَةً وعَادَةً يَنْقَطِعُ بِها عَنِ المَقْصُوْدِ» انْتَهى.
قُلْتُ: إذَا لم يُفَتِّشْ طَالِبُ العِلْمِ عَنْ مَوَاطِنِ جُلُوْسِهِ، ومَبَاغِي جُلَسَائِهِ، كَما ذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله، وإلاَّ كَانَتْ مُخَالَطَتُهُ بالصَّالحِيْنَ آفةً قَدْ تَأخُذُهُ إلى أوْدِيَةِ غَفْلَةٍ عَنْ طَلَبِ العِلْمِ الَّذِي يُرِيْدُ، وهُوَ لا يَعْلَمُ، والله أعْلَمُ.
ومِنْ مَحَاسِنِ النَّصَائِحِ السَّنِيَّةِ الخَاصَّةِ لطُلَّابِ العِلْمِ، مَا ذَكَرَهَا ابنُ القَيِّمِ عَنْ شَيْخِهِ ابنِ تَيْمِيَّةَ في «مَدَارِجِ السَّالِكِيْنَ» (2/ 202): «قَالَ لِي شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ -قَدَّسَ اللهُ رُوْحَهُ- في شَيْءٍ مِنَ المُبَاحِ: هَذَا يُنَافي المَرَاتِبَ العَالِيَةَ، وإنْ لَمْ يَكُنْ تَرْكُه شَرْطًا في النَّجَاةِ».
* * *
وأخِيْرًا؛ فإنَّني أُوْصِي نَفْسِي، وطُلَّابَ العِلْمِ أنْ يَأخُذُوا حَظَّهُم مِنْ كُتُبِ «الزُّهْدِ» قِرَاءةً وإقْرَاءً، ودَرْسًا ومُدَارَسَةً، هَذَا إذَا عَلِمْنا أنَّ السَّلَفَ كَانَتْ مَجالِسُهُمْ لا تَنْقَطِعُ عَنِ رِوَايَاتِ كُتُبِ «الزُّهْدِ» تَألِيْفًا وتحْدِيْثًا وقِرَاءةً، بَلْ مَا تَجَمَّلَ تَارِيخُهُمْ إلاَّ بِما ذُكِرَ عَنْهُمْ مِنْ زُهْدِيَّاتٍ وتَقْوَى كَانَتْ مَاثِلَةً: في تألُّهٍ في عِبَادَةٍ، وإيْمانٍ في اسْتِقَامَةٍ، ووَرَعٍ في خَشْيَةٍ، وصَبْرٍ في يَقِيْنٍ!
والحَالَةُ هَذِه الَّتِي نَعِيْشُ؛ كَانَ لِزَامًا عَلَيْنَا أنْ نَأخُذَ حَظًّا مِنَ النَّظَرِ في كُتُبِ «الزُّهْدِ»، لاسِيَّما وأنَّ الدُّنْيَا (هَذِهِ الأيَّامَ)، قَدْ أخَذَتْ زُخْرُفَهَا، وتَزَيَّنَتْ لأهْلِهَا، واهْتَزَّتْ ورَبَتْ لِذِي عَيْنٍ، والله خَيْرٌ حَافِظًا!
فَهَيَّا إلى مَوْعُوْدِ قِرَاءةِ كُتُب «الزُّهْدِ»، وأخُصُّ مِنْهَا؛ كِتَابَ «الزُّهْدِ» للإمَامِ أحمَدَ (241)، ووَكِيْعٍ (197) وغَيْرِهِما.
فَيَا طَالِبَ العِلْمِ: لا يَرَاكَ الله في هَذِهِ الدُّنْيَا إلاَّ زَاهِدًا، أو مُقْتَصِدًا، فَما الدُّنْيَا إلاَّ كَما قَالَ أحمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ الله: «طَعَامٌ دُوْنَ طَعَامٍ، وشَرَابٌ دُوْنَ شَرَابٍ، ولِبَاسٌ دُوْنَ لِبَاسٍ، وصَبْرُ أيَّامٍ قَلاِئلَ!»، ذَكَرَهُ ابنُ تَيْمِيَّةَ وغَيْرُهُ.
وجِمَاعُ «الزُّهْدِ» إنْ سَألْتَ، فَهُوَ كَما قَالَهُ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله في "مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى» (10/ 21، 641): هُوَ تَرْكُ الرَّغْبَةِ فِيْما لا يَنْفَعُ في الدَّارِ الآخِرَةِ، وهُوَ فُضُوْلُ المُبَاحَاتِ الَّتي لا يُسْتَعَانُ بِها عَلى طَاعَةِ الله، مَعَ ثِقَةِ القَلْبِ بِما عِنْدَ الله» انْتَهَى.
* * *
وأخْتِمُ بِهَذِه النَّصِيْحَةِ مِنْ قَوْلِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: «كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَلَبَ العِلْمَ؛ لَمْ يَلْبَثْ أنْ يُرَى ذَلِكَ في تَخَشُّعِهِ، وبَصَرِه، ويَدِه، وصَلاتِه، وزُهْدِه، وإنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصِيْبَ البَابَ مِنْ أبْوَابِ العِلْمِ فَيَعْمَلَ بِه؛ فَيَكُوْنَ خَيْرًا لَه مِنَ الدُّنْيا ومَا فيها»(49).
* * *
كَما أضِفْ هُنَا أنَّ بَرْنامَجَنا في (المَنْهَجِ العِلْمِيِّ)، كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى طَرِيْقَةٍ خَاصَّةٍ مَعَ طُلَّابِنا (لَيْسَ إلاَّ!)، لِذَا لمَّا لَمَسْنا ثَمَرَتَه عَلَى طُلَّابِنَا، وتَنَافُسَهُم فيه، أرْتَأيْنا نَشْرَهَا لعُمُوْمِ الفَائِدَةِ لَدَى أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ؛ عَلَّهَا تَنْشُرُ مَوَاتَ أفْئِدَةٍ أُخْرَى رَانَ عَلَيْها الجَهْلُ، واسْتَعْبَدَتْهَا لُعَاعَةٌ مِنْ دُنْيا زَائِلَةٍ، واللهُ المُوفِّقُ والهادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ.
وخِتَامًا؛ فَقَدْ ألْقَى القَلَمُ عَصَاهُ، واسْتَقَرَّ بِه النَّوَى، فَمَا أجَادَ بِه فَمِنْ فَضْلِ رَبِّي، ومَا أخَطأ فيه فَمِنِّي والشَّيْطَانِ، واللهُ ورَسُوْلُه مِنْهُ بَرِيْئانِ!
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى عَبْدِهِ ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ
([1]) لَقَدْ ذَكَرْتُ بَعْضَ العَوَائِقِ (حُبِّ الدُّنْيا، والدُّخُوْلِ عَلَى السَّلاطِيْنِ، وتَعْظِيْمِ العُلُوْمِ الدِّنْيَوِيَّةِ وألْقَابِها، والتَّخَصُّصِ الجَامِعِيِّ، وفُضُوْلِ المُبَاحَاتِ) بشَيْءٍ مِنَ البَسْطِ دُوْنَ سِوَاها؛ وما ذَاكَ إلاَّ أنَّ كَثِيْرًا مِنْ المُنْتَسِبِيْنَ إلى العِلْمِ مِنْ أهْلِ زَمَانِنَا قَدْ تَوَسَّعُوا فيهِا (فَيَا أسَفَاه)!
([2]) انْظُرْ: «جَامِعَ بَيَانِ العِلْمِ وفَضْلِه» لابْنِ عَبْدِ البَرِّ (1/ 639).
([3]) انْظُرْ: «شَرْحَ حَدِيْثِ أبِي الدَّرْدَاءِ في طَلَبِ العِلْمِ» لابنِ رَجَبٍ، وهُوَ ضِمْنُ «مَجْمُوْعِ رَسَائِلِ ابنِ رَجَبٍ» جَمْعُ أبي مُصْعَبٍ الحَلْوَانِيُّ (1/ 56).
([4]) انْظُرْ: «بَيَانَ العِلْمِ الأصِيْلِ» لعَبْدِ الكَرِيْمِ الحُمَيْدِ (26).
([5]) انْظُرْ: «أخْلاقَ العُلَمَاءِ» للآجُرِّيِّ (86)، و«الحِلْيَةَ» لأبِي نُعِيْمٍ الأصْبَهَانِيِّ (8/ 92)، و«سِيْرَ أعْلامِ النُّبَلاءِ» للذَّهَبِيِّ (8/ 434).
([6]) انْظُرْ: «الحِلْيَةَ» لأبِي نُعِيْمٍ الأصْبَهَانِيِّ (6/ 339)، و«جَامِعَ بَيَانِ العِلْمِ وفَضْلِه» لابْنِ عَبْدِ البَرِّ (1/ 643،711) بِنَحْوِه.
([7]) انْظُرْ: «جَامِعَ بَيَانِ العِلْمِ وفَضْلِه» لابْنِ عَبْدِ البَرِّ (1/ 670).
([8]) انْظُرْ: «الحِلْيَةَ» لأبِي نُعَيْمٍ الأصْبَهَانِيِّ (8/ 178) بنَحْوِه.
([9]) انْظُرْ: «جَامِعَ بَيَانِ العِلْمِ وفَضْلِه» لابْنِ عَبْدِ البَرِّ (1/ 656).
([10]) السَّابِقُ (1/ 660).
([11]) انْظُرْ: «الحِلْيَةَ» لأبِي نُعَيْمٍ (3/ 243) و«شَرْحَ حَدِيْثِ أبِي الدَّرْدَاءِ» لابنِ رَجَبٍ، وهُوَ ضِمْنُ «مَجْمُوْعِ رَسَائِلِ ابنِ رَجَبٍ» جَمْعُ أبي مُصْعَبٍ الحَلْوَانِيُّ (1/ 57).
([12]) انْظُرْ: «شَرْحَ حَدِيْثِ أبِي الدَّرْدَاءِ في طَلَبِ العِلْمِ» لابنِ رَجَبٍ، وهُوَ ضِمْنُ «مَجْمُوْعِ رَسَائِلِ ابنِ رَجَبٍ» جَمْعُ أبي مُصْعَبٍ الحَلْوَانِيُّ (1/ 57-58).
([13]) انْظُرْ: «الحِلْيَةَ» لأبِي نُعَيْمٍ الأصْبَهَانِيِّ (5/ 412).
([14]) انْظُرْ: «الآدَابَ الشَّرْعِيَّةَ» لابنِ مُفْلِحٍ (2/ 155).
([15]) انْظُرْ: «الحِلْيَةَ» لأبِي نُعَيْمٍ الأصْبَهَانِيِّ (6/ 428).
([16]) السَّابِقُ (7/ 44).
([17]) انْظُرْ: «تَذْكِرَةَ السَّامِعِ والمُتَكَلِّمِ» لابنِ جَمَاعَةَ (48).
([18]) انْظُرْ: «بَيَانَ العِلْمِ الأصِيْلِ» لعَبْدِ الكَرِيْمِ الحُمَيْدِ (26).
([19]) انْظُرْ: «جَامِعَ بَيَانِ العِلْمِ وفَضْلِه» لابْنِ عَبْدِ البَرِّ (1/ 644).
([20]) لَقَدْ أدْرَكْنا مَشَايِخَنا وهُمْ يَحْفَظُوْنَ قَصِيْدَةَ الجُرْجَانِيِّ كَامِلَةً، ولَمْ يَزَلِ العَهْدُ مُتَّصِلاً فالحَمْدُ للهِ، فاشْدُدْ يا طَالِبَ العِلْمِ بِحَبْلِ حِفْظِها؛ ففيها صِفَاتُ العَالِمِ الرَّبَّانِيِّ، وفيها حِكَمٌ ومَوَاعِظُ عَزِيْزَةٌ؛ لاسِيَّمَا هَذِه الأيَّامِ!، انْظُرْها «أدَبُ الدُّنْيا والدِّيْنِ» للمَاوَرْدِيِّ (132)، و«طَبَقَاتُ الشَّافِعِيَّةِ» للسُّبْكِيِّ (3/ 460) وانْظُرْها كَامِلَةً في «صَفَحَاتٍ مِنْ صَبْرِ العُلَمَاءِ» لأبِي غُدَّةَ (352).
([21]) انْظُرْ: «شَرْحَ حَدِيْثِ أبِي الدَّرْدَاءِ في طَلَبِ العِلْمِ» لابنِ رَجَبٍ، (1/ 55).
([22]) انْظُرْ: «شَرْحَ حَدِيْثِ أبِي الدَّرْدَاءِ في طَلَبِ العِلْمِ» لابنِ رَجَبٍ، وهُوَ ضِمْنُ «مَجْمُوْعِ رَسَائِلِ ابنِ رَجَبٍ» جَمْعُ أبي مُصْعَبٍ الحَلْوَانِيُّ (1/ 86-87).
([23]) انْظُرْ: «الجَلِيْسَ الصَّالِحَ» لسِبْطِ ابنِ الجَوْزِيِّ (201).
([24]) انْظُرْ السَّابِقَ.
([25]) أي: بَعْضَ الأسْمَاءِ العِلْمِيَّةِ الوَافِدَةِ عَلَيْنا: كـ(الدَّكْتُوْرَاه)، و(الماجِسْتِيْر)، و(البَكَلَرْيُوس)، وغَيْرِها، نَعَم فَإنَّ هَذِهِ الأسْمَاءَ العِلْمِيَّةَ لا تُذَمُّ لذَاتِهَا، ولكِنَّ الذَّمَّ هُنَا في بَعْضِ أصْحَابِهَا مِنْ أدْعِيَاءِ العِلْمِ الشَّرعِيِّ!
([26]) انْظُرْ: «جَامِعَ بَيَانِ العِلْمِ» لابْنِ عَبْدِ البَرِّ (1/ 644)، و«البِدَايَةَ والنِّهَايَةَ» لابنِ كَثِيْرٍ (10/ 117).
([27]) لأنَّ الخَيْرَ يَكُوْنُ في العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ أصَالَةً، وفي غَيْرِه مِنَ عُلُوْمِ الدُّنْيا يَكُوْنُ تِبَاعًا!
([28]) لَقَدْ تَكَلَّمْتُ عَنْ: «عِلْمِ الطِّبِّ، وعِلْمِ الاجْتِماعِ، والإعْجَازِ العِلْمِيِّ»، بشَيءٍ مِنَ البَسْطِ والتَّحْرِيْرِ، وبَيَّنْتُ كَثِيرًا مِنْ أخَطَائِها العِلْمِيَّةِ، وآثَارِها العِمَلِيَّةِ، وحَذَّرْتُ مِنَ الجَرِي ورَاءهَا والانْبِهَارِ بِها إلى غَيْرِ ذَلِكَ ممَّا ذَكْرَتُه هُنَاكَ، وأسْألُ اللهَ أنْ يُيَسِّرَ إخْرَاجَها قَرِيْبًا!
([29]) هُنَاكَ كَثِيْرٌ مِنَ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ الرَّادَةِ عَلَى «البَرْمَجَةِ اللُّغَوِيَّةِ العَصَبِيَّةِ»، فَمِنْها: «البَرْمَجَةُ اللُّغَوِيَّةُ العَصَبِيَّةُ» في طَبْعَتِه الثَّانِيَةِ للأخِ أحْمَدَ الزَّهْرَانِيِّ، وهُو مِنْ أنْفَسِها وأجْوَدِها، وكَذَا «الفِكْرُ العَقَدِيُّ الوَافِدُ ومَنْهَجِيَّةُ التَّعَامُلِ مَعَه» للأخْتِ فُوْزَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّطِيْفِ كُرْدِيٍّ، وهُو عِبَارَةٌ عَنْ مُذَكِّرَةٍ، كما أنَّه بَحْثٌ نَفيسٌ جَيِّدٌ في بَابِه.
([30]) عُلُوْمُ الغَايَةِ مِثْلُ: العَقِيْدَةِ، والحَدِيْثِ، والفِقْهِ، والتَّفْسِيْرِ. وعُلُوْمُ الآلَةِ مِثْلُ: النَّحْوِ، واللُّغَةِ، وأُصُوْلِ الفِقْهِ، ومُصْطَلَحِ الحَدِيْثِ، والمَنْطِقِ... إلخ.
([31]) أيْ: أنَّه قَدْ أخَذَ مِنَ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ الحَدَّ الأدْنَى ممَّا يَسْقُطُ به وَاجِبُ العِلْمِ؛ بحَيْثُ أصْبَحَ عِنْدَه شُمُوْلِيَّةٌ في العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ، ومَعَ هَذا تَجِدُه قَدْ بَرَّزَ وظَهَرَ واشْتَهَرَ في فَنٍّ أو أكْثَرَ، فَعِنْدَئِذٍ يُلَقَّبُ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ بأشْهَرِها مِنْ فُنُوْنِ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ: كالفَقِيْهِ، أو الأُصُوْلِي، أو النَّحْوِي، أو المفَسِّرِ، أو المُحَدِّثِ، وهَكَذَا.
([32]) كـ(الدَّكْتُوْرَاه)، و(الماجِسْتِيْر)، و(البَكَلَرْيُوس)، وغَيْرِها مِنَ الأسْمَاءِ الَّتِي اتَّكئ عَلَيْهَا أهْلُ العَطَالَةِ العِلْمِيَّةِ.
([33]) انْظُرْ: «تَفْسِيْرَ القُرْآنِ العَظِيْمِ» لابنِ كَثِيْرٍ (6/ 98).
([34]) انْظُرْ: «عُيُوْنَ الأخْبَارِ» لابنِ قُتَيْبَةَ (1/ 380).
([35]) انْظُرْ: «الآدَابَ الشَّرعِيَّةَ» لابنِ مُفْلِحٍ (1/ 66).
([37]) انْظُرْ: «الزُّهْدَ» للإمَامِ أحمَدَ (461).
([38]) انْظُرْ: «الآدَابَ الشَّرعِيَّةَ» لابنِ مُفْلِحٍ (3/ 261).
([39]) انْظُرْ: «رَوْضَةَ العُقَلاءِ» لابنِ حِبَّانَ (43).
([40]) انْظُرْ: «الزُّهْدَ» للإمَامِ أحمَدَ (181).
([41]) انْظُرْ: «الآدَابَ الشَّرعِيَّةَ» لابنِ مُفْلِحٍ (3/ 184).
([42]) انْظُرْ: «جَامِعَ العُلُوْمِ والحِكَمِ» لابنِ رَجَبٍ (2/ 471).
([43]) انْظُرْ: «الزُّهْدَ» للإمَامِ أحمَدَ (168).
([44]) انْظُرْ: «بَهْجَةَ المَجَالِسِ» لابنِ عَبْدِ البرِّ (1/ 644).
([45]) انْظُرْ: «الزُّهْدَ» للإمَامِ أحمَدَ (255).
([46]) انْظُرْ: «جَذْوَةَ المُقْتَبِسِ» للحُمَيْدِيِّ (382)، و«تَرْتِيْبَ المَدَارِكِ» للقَاضِي عِيَاضٍ (2/ 540)، و«سِيَرَ الأعْلامِ» للذَّهَبِيِّ (10/ 521) بتَصَرُّفٍ.
([47]) انْظُرْ: «الزُّهْدَ» للإمَامِ أحمَدَ (517).
([48]) انْظُرْ: «الزُّهْدَ» للإمَامِ أحمَدَ (458).
([49]) «الزُّهْدُ» للحَسَنِ البَصْرِيِّ (92)، و«أخْلاقُ العُلَمَاءِ» للآجُرِّيِّ (89).